مانديلا .. والعرب
تصوروا .. لو أن نيلسون ما نديلا بعد ما خرج من السجن، الذي قضى فيه 27 عاما، وأصبح رئيسا لجنوب إفريقيا سل سيفه وأعمله في رقاب البيض انتقاما من مظالم سياسة التمييز العنصري التي كان يديرها إيان سميث وأتباعه ضد السود وراح ضحيتها مئات الآلاف منهم.
إنه لو فعل ذلك لكان قد وجد إلى جانبه دون شك جيوشا من الغوغاء الجهلة تخوض معه في حمامات الدم ثأرا وانتقاما, غير أن مانديلا كان من طينة أخرى .. تعالى على الأحقاد وجبال الكراهية، صعد إلى سدة النبالة الإنسانية، قطع دابر الفتنة وضرب المثل الباهر على سمو النفس بتحريرها من الغل بالصفح والعفو والغفران وطي صفحات الأمس البغيض.
لذا ولدت دولة جنوب إفريقيا عفية، بقلب مفتوح للمحبة ويد ممدودة للإخاء وصدر مشرع للعناق وعيش مشترك تحت أفق السماحة وفوق أرض المودة.
ما يجري في فلسطين، العراق، لبنان، والصومال أحوج ما يكون إلى موقف عملاق كموقف مانديلا لإطفاء نذر الفتنة والاقتتال بجرعات عالية من ذات النبع الصافي للصفح الجميل الذي سقاه مانديلا لشعبه بسمو روح فذ... فقد أسقمت أمة العرب صيحات النعرات المذهبية، الطائفية، العرقية، الحزبية، والعقائدية وأورثت أبناءها إدبارا عن الحياة وإقبالا على الموت، إما بأعمال جنونية كالأعمال الانتحارية، وإما بالشطط في غليظ القول والغلو في الرأي والمعتقد، أو بالحذف والإقصاء، أو بالتمرغ في مباذل الرذيلة والفسق والفجور وفساد الذمم والبصق على القيم والضمائر.
ها قد استبدلت أمة العرب أسواقها القديمة ـ مثل عكاظ والمربد وذي مجنة، ومجاز التي كانت تتفاخر فيها قبائلها بلسان شعرائها وتنابز بالألقاب ـ بمحطات التلفزة الفضائية لأصحاب الملل والنحل والطوائف، كل محطة تستصرخ رموزها التاريخية رافعة إياهم نصبا معلقة على رؤوس الخلق تؤجج الغوغاء والعامة وتستفز الآخرين.
ما أحوج هذا العالم العربي إلى إخماد أنفاس هذا التاريخ الملتبس بالأكاذيب الملوث بالعصبيات ونقيع التزمت ووضاعات المصالح الذاتية. ما أحوج هذا العالم العربي إلى درس طويل طويل طويل في النسيان وإيقاف استيلاء الأمس على اليوم والغد. فلقد صفدت أغلال التاريخ خطواتنا، جعلتنا ندور كالمخبولين حول أنفسنا، نصطدم ببعضنا، نحطم رؤوس بعضنا بعضا، لقد سد ركام التاريخ عيوبنا وبصائرنا فما نرى ولا نعي إلا قعقعة سيوف الثأر ولا نطرب أو ننتشي لغير الأساطير والخزعبلات التي تمجد بشرا خلعنا عليهم العصمة وأسلمنا لهم البداهة في أن يقودونا إلى حروب انكشارية، كل محطة تنادي على زعيم هو عندها كل الزعماء أو تنادي على ملة أو نحلة هي كل البشر، تماما كما لو أننا نحن أجدادنا في عصر بني تغلب تردد مع شاعرها عمرو بن كلثوم:
بأنا نورد الرايات بيضا
ونصدرهن حمرا قد روينا
ألا ليت هذا التاريخ الذي تعوي باسمه هذه المحطات يكف عن الجريان؟ وليت هؤلاء الناعقون يصابون بداء النسيان الجميل تماما مثل نيلسون مانديلا، إذا .. لكان في الأرض العربية وفي رزقها متسع وخير للجميع تماما مثلما أصبحت عليه الحال في دولة جنوب إفريقيا .. في الناس المحبة وعلى الأرض السلام.