مأتم العيد
يجيء العيد .. يهرع الكتاب والإعلاميون ليستقبلوه كنذير شؤم، كالمآتم تماما، بلطم الوجوه وشق الجيوب، تحسراً على واقع العرب والأعراب، غرقهم في أنهار الدم والدمع والصديد، طاحونة الرعب والتقتيل الجنونيين، ففي كل كلمة غصة ومرارة أو طعنة يأس، وخلف كل فاصلة كمد وكآبة وعويل.
أبدا، وفي كل عيد .. تغتال الكلمات العيد، تخنقه التعليقات التي تشرب من حمأ مسموم على مدى قرن من الهزائم والانكسارات ومن الغوص في مصائد العجز والتخلف، حتى أضحى يوم العيد، بسبب مذبحة، النواح عليه أسوأ أيامنا، كما لو كنا قررنا التآمر على ألا يحظى حتى بمكانة أيامنا العادية وبدلا عن أن نعلقه فانوسا مشرئب الوهج، صرنا نجعله فزاعة ما أحاق وما يحيق بنا من كوارث ومصائب من المحيط إلى الخليج، محملينه أطول البكائيات: من نحيب عبد الله الصغير (آخر ملوك الطوائف في الأندلس) إلى دموع الأم الفلسطينية التي فجعت قبل أيام بفقد أبنائها الثلاثة في غارة صهيونية على بيتها في غزة.
هل أن الأذن العربية لا تسمع غير العويل ولا ترى العين إلا الموت والخراب ولا يشم الأنف سوى تفسخ الجيف وروائح البارود ولا يتلفظ اللسان بغير الشتيمة والإدانة وجلد الذات ولا تهجس الظنون إلا بالتشاؤم، أما الأيدي فلا تمسك غير أقلام تتقيأ ناقع الحنظل من الحروف القانطة.؟!
أيعقل أن نتعهد العيد بالمناحة وأن نتعاهد على سمل عينيه وقطع لسانه وتكميم فيه وبتر أطرافه؟ أيعقل أننا نتحفز جميعا لمباراة عامة نتنافس في هجائه صارخين زاعقين في وجهه بدلا من أن نشدو ونغني؟ هل يعقل أن يكون العرب والأعراب قد قرروا جعل العيد موسما لبكائياتهم؟ واختاروه مشجبا لعاهاتهم؟ وعينوه رمزا لانحطاطهم؟ ألا يبدو الأمر على هذا النحو؟ ففي كل عيد، يغيب العيد أو يتم تغييبه، خنقه، بمطولات تشجب مقدمه الذي لا يذكرها إلا بالبؤس والمهانة.
إنه لموقف جماعي شنيع .. لم يصدر بشأنه مرسوم أو تعميم أو قرار من قيادة أو مؤتمر أو حتى توصية من أمانة الجامعة العربية. ومع ذلك فيكاد هذا الموقف النكد من العيد هو ما يجمع عليه العرب والأعراب.. أليس ذلكم موجع حتى الذبحة الصدرية؟
لا أحد في العيد يذكرنا بالجانب المضيء من قمر العرب والأعراب .. نماذج العبقرية والإبداع، الإنجازات في الطب والعلوم والإنسانيات، المواقف الخيرية الدافئة الطافحة بالنخوة والنجدة والشهامة، أعمال البر. نعم الله الكثيرة علينا: ملايين الأشجار التي زرعت أو أثمرت، مليارات الزهور التي تفتحت، المحاصيل التي توافرت، الجراح التي اندملت، النفوس التي شفيت، المظلومون الذين أنصفتهم العدالة، البيوت التي بنيت، المدن والقرى التي تأنقت. الصداقات التي تألفت، العداوات التي أصلحت، والزيجات التي سعدت، الأطفال الذين ولدوا، والعافية والصحة فينا، وغيرها من شؤون خاصة وعامة فتحت الشفاه بالبسمات وغمرت القلوب بالمرح والنفوس بالطمأنينة .. مليارات حالات الاستياء الصغيرة أو الكبيرة التي ندير لها ظهورنا محدقين فقط بالجانب المظلم من القمر.
أما من مقال واحد؟ مقال واحد فقط لا يطوله القصاص من العيد بالنكد؟ مقال واحد يسلم من اللطم والشتم وجلد الذات؟ مقال واحد فقط لا يدلق في وجوهنا الدم والدمع والصديد؟ فمنذ سقوط الأندلس إلى سقوط بغداد ونحن نوصد في وجه العيد الأبواب، نسد أمامه الدروب .. فماذا لو تركناه عاماً واحداً فقط يمشي بيننا مرحا؟ أجلسناه في صدارة صدورنا؟ حدثناه عن المسرات، الإنجازات والإنسانيات في حواضرنا وبرارينا؟ لو حدث هذا .. لسوف يستعيدنا العيد إليه ونستعيده إلينا وقد نفاجأ بأنفسنا وقد أعاد لنا العيد العمر الذي ذهب.. نخب صبيانا وصبايا في الأزقة والحارات، نصدح مثل أغمار من مجرات النجوم "أهلاً بالعيد .. أهلاً .. أهلاً .." من قلب القلب .. وكل عام وأنتم بخير.