رسائل جوال تدعو لإحياء رأس السنة الهجرية تثير تساؤلات شرعية
لحظات التوديع مثيرة للأشجان، مهيِّجة للأحزان؛ إذ هي مصاحبةٌ للرحيل، مؤذنة بالانقضاء، ولقد مضى من عمر الزمن عام كامل، تقلّبت فيه أحوال، وتصرمت فيه آجال، ونزلت فيه بالأمة النوازل التي تقض المضاجع، وتضطرب منها الألباب، وتجِف القلوب. وتختلف وسائل الناس في وداع عامهم الهجري المنصرم بين محاسب لنفسه وخاتم لعمله بصنوف من العبادات الاقتصادية استطلعت عددا من الدعاة حول وداع واستقبال العام الهجري.
* بداية دعا الشيخ الدكتور أسامة بن عبد الله خياط إمام وخطيب المسجد الحرام إلى وقفة لمراجعة الذات، ومحاسبة النفس، بالوقوف منها موقف التاجر الأريب من تجارته، ألم تروا إليه كيف يجعل لنفسه زمنا معلوما، ووقتا مضروبا، ينظر فيه إلى مبلغ ربحه وخسارته، باحثا عن الأسباب متأملا في الخطأ والصواب؟!
وبين خياط أن سلوك المسلم الواعي هذا المسلك ليربو في شرف مقاصده، وسمو أهدافه، وكمال غاياته على ذلك؛ لأنه سعى إلى الحفاظ على المكاسب الحقة التي لا تبور تجارتها، ولا تكسد سوقها، ولا تفنى أرباحها؛ لأنها الباقيات الصالحات التي جعل لها سبحانه مكانا عليا، ومقاما كريما، وفضَّلها على ما سواها فقال سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} ولذا كانت العناية بهذه المراجعة والحرص على هذه المحاسبة دأب أولي النهى، وديدن الأيقاظ، ونهج الراشدين، وسبيل المخبتين، لا يشغلهم عنها لهو الحياة ولغوها، وزخرفها وزينتها، فيقطعون أشواط الحياة بحظ موفور من التوفيق في إدراك المُنى، وبلوغ الآمال، والسلامة من العثار.
وحول ثمار المحاسبة قال خياط إن المراجعة والمحاسبة تظهران المرء على مواطن النقص، ومواضع الخلل، ومجالب الزلل، فإذا صح منه العزم، وخلصت النية، واستبان الطريق، وصدَّق ذلك كلَّه العمل، جاء عون الله بمدد لا ينفد، فأورث حسن العاقبة، وتبدلَ الحال، وبلوغ المراد.
التقنية لخدمة البدعة
من جانبه استنكر فضيلة الشيخ الدكتور ناصر العمر المشرف العام على موقع المسلم ما يكثر في نهاية العام الهجري من رسائل الجوال التي تدعو إلى طلب الاستغفار قبل طي الصحائف، والدعوة لصيام آخر أيام السنة، أو أول أيام السنة الجديدة، وبإحياء ليلة رأس السنة الهجرية، مصنفاً إياه في قائمة البدع والمحدثات التي حذر منها النبي ( أمته في حديث عائشة _رضي الله عنها_ قالت: قال رسول الله _(_: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" رواه البخاري.
وقال العمر إن ما انتشر في هذه الأيام بمناسبة نهاية العام من تخصيص آخر العام أو أوله بالصيام واختتام آخر السنة بصلاة أو عبادة أو استغفار، فكل هذه الأمور لا أصل لها في الشرع، وقد سألت كلاً من شيخي الشيخ عبد الرحمن البراك، والشيخ عبد العزيز الراجحي _حفظهما الله_ عن ذلك، فقالا: "كل ذلك لا أصل له، وهو بدعة"، حيث إن تخصيص عبادة بزمان أو مكان أو بعدد مما لم يرد به دليل هو بدعة، كما قرر العلماء _رحمهم الله_، بعد استقراء النصوص وتتبعها.
من جانبه توسط الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة الداعية المعروف في قضية التهنئة بحلول العام الهجري، موضحاً أن التهنئة بالعام الهجري الجديد من المباحات، وقال العودة إن أفضل ما يقال في شأنها أن من هناك ترد عليه بكلام طيب من جنس كلامه، ولا تبدأ أحداً بها.
وهذا بعينه ما روي عن أحمد في التهنئة بالعيد أنه من هنأه رد عليه، وإلا لم يبتدئه، ولا أعلم في التهنئة بالعيد شيئاً يثبت.
وقد قال أصحابنا من الحنابلة: لا بأس بقوله لغيره: تقبل الله منا ومنك، فالجواب: أي لا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضاً بما هو مستفيض بينهم، وقد يستدل لهذا من حيث العموم بمشروعية سجود الشكر، ومشروعية التعزية، وتبشير النبي – ( - بقدوم رمضان، انظر ما رواه النسائي (2106)، وتهنئة طلحة بن عبيد الله لكعب بن مالك، وبحضرة النبي –(- ولم ينكر عليه، انظر ما رواه البخاري (4418) ومسلم (2769).
قال ابن تيمية ـ رحمه الله: قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره. وذكر الحافظ ابن حجر مشروعيته، وثمة آثار عديدة في مثل ذلك. قال أحمد: لا أبتدئ به، فإن ابتدأني أحد أجبته.
وذلك لأن جواب التحية واجب؛ لقوله – تعالى -:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"الآية ولم يرد في مثل ذلك نهي، والله – تعالى - أعلم ولا يدخل مثل هذا في باب البدع؛ لأنه من محاسن العادات وطيب الأخلاق، ولا يقصد به محض التعبد، هذا ما يظهر لي، والله أعلم.