رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


من وحي الميزانية العامة للدولة

[email protected]

في جلسة مجلس الوزراء التي عقدت الإثنين 27/11/1427هـ, أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عن ميزانية الدولة للعام المالي 1427هـ/1428هـ, التي بلغت 400 مليار إيرادات متوقعة بينما بلغت المصروفات 380 مليار ريال. وحظي التعليم العام والعالي والفني بما يزيد على ربع الميزانية, وهذا مؤشر قوي على توجه الدولة نحو تأهيل السعوديين وتدريبهم ليكونوا في الميدان وفي مواقع العمل المتعددة, وتضمنت ميزانية التعليم إنشاء مقار الجامعات الجديدة واستكمال مقار الجامعات القائمة, إضافة إلى التوسع في التعليم الفني والتدريب المهني, حيث اعتمد إنشاء سبع كليات تقنية وثلاثة معاهد عليا للبنات وتسعة معاهد تدريب مهني, ما يعني إدراك حقيقة مؤلمة وهي قلة بل ندرة القوى العاملة السعودية في المجال الفني حيث تسيطر العمالة الأجنبية على مجمل الأعمال المهنية, وهذا يترتب عليه أمور عدة, إذ إن استمرار الوضع على هذه الحال من شأنه أن يفقد أبناء الوطن الإمساك بناصية التقنية, إضافة إلى تحويلات العمالة الوافدة الأموال الضخمة, وهذا يستنزف على المدى البعيد كثيراً من خيرات الوطن.
ولعله من المناسب التوقف عند هذه النقطة, إذ يلاحظ المرء قلة الفنيين السعوديين العاملين سواء في القطاع الحكومي أو في القطاع الخاص, إذ يندر أن تجد سعودياً يعمل في ورشة للسيارات أو التكييف أو أعمال الكهرباء, وفي وضع كهذا يحق أن نتساءل: أين مخرجات مؤسسة التعليم الفني والتدريب المهني في هذه المجالات؟ هل هي غير مؤهلة بما فيه الكفاية للعمل في الميدان الفني والمهني, أم أن الثقافة السائدة تفرض نفسها عليهم وترغبهم في العمل الإداري؟! وحري بنا, خاصة الجهات ذات العلاقة كوزارة العمل ووزارة الخدمة المدنية والمؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني, أن تبحث هذه المشكلة للوقوف على سر الهروب من العمل الفني, هل هو بسبب الدخل أم النظرة الاجتماعية؟ أم صعوبة العمل وقلة التأهيل والمهارات المكتسبة أثناء الدراسة والتدريب؟! لا أعتقد أن قلة الدخل هي السبب إلا في حالة واحدة وهي أن يعمل المتخرج أجيرا عند صاحب ورشة أو غيره, فهذا قد يكون صحيحاً لأن الميدان مسيطر عليه وبصورة واضحة من قبل العمالة الأجنبية وشكلت طوال هذه السنين منظومة علاقات فيما بينها ومع بعض المواطنين المستفيدين, ما جعلها تفضل بني جلدتها على المواطن, ولذا فهي لا تعطيه إلا راتبا غير مجز أو ربما تحاربه لتخرجه من السوق, وهذا ربما حدث مع بعض خريجي كليات التقنية الذين تخرجوا وهم يطمحون إلى العمل في الميدان وفي مجال التخصص لكن قوة العمالة الأجنبية أخرجتهم من الميدان.
أما إن كان السبب يعود إلى قلة المهارة والضعف في الإعداد, فالأمر يوجب إعادة النظر في المناهج وطرق التدريب لتلافي جوانب الخلل هذه, ويمكن التوسع في مفهوم التعليم والتدريب التعاوني مع المصانع والمؤسسات الضالعة في الأعمال الفنية, كما أقترح دراسة تجربة "أرامكو" في إعداد الكوادر السعودية الفنية, إذ إننا نعلم جميعاً أن السعوديين عملوا في أعمال فنية ومازالوا يعملون وأثبتوا جدارتهم بل تفوقهم في كثير من المجالات الفنية.
أما إن كانت ندرة السعوديين في الميدان تعود إلى الثقافة المفضلة للأعمال الإدارية على الأعمال الفنية, فالأمر يوجب تكثيف الجهود على المستوى الاجتماعي ومن خلال وسائل الإعلام وفي المدارس لتغيير هذه الثقافة, وقد يكون من الحلول إيجاد حوافز إضافية للعاملين في المهن الفنية.
ومما يستحق وقفة متأنية في هذه الميزانية ما حظيت به التنمية الاجتماعية ودور الرعاية من اهتمام, إذ خصص لهذا المجال عشرة مليارات ريال وحتى لا يتحول هذا المجال إلى مصدر إنفاق يتزايد مع الوقت أرى أنه لا بد من دراسة الظواهر الاجتماعية بغرض التقليل ما أمكن من هذه الظواهر وذلك عملاً بالمثل القائل درهم وقاية خير من قنطار علاج. ذلك أن تقليل هذه الفئات ومحاصرة العوامل والأسباب التي أوجدتها من فقر ومخدرات وتفكك أسري وحوادث مرورية أفضل من جعل هذه الظواهر تزيد وتتحول إلى عبء ثقيل يصعب على المجتمع تحمل آثاره المادية والاجتماعية والنفسية, وحتى لا نجعل هذه الفئات تنتظر العطاء من الجهات الرسمية أو من الأقارب والجيران والمحسنين, أعتقد أن من الحلول إعطاء أولوية للقبول في الكليات ومعاهد التدريب المهني والجامعات لأبناء هذه الفئات, كما أن التركيز على عقد ورش عمل ومحاضرات تثقيفية داخل هذه الفئات وفي أماكن وجودها قد يسهم في تغيير ثقافتها وأنماط تفكيرها وسلوكها, ولعله من المناسب أيضاً تخصيص بعض المنح الدراسية سواء البعثات الداخلية أو الخارجية لأبناء هذه الفئات, لأن الرفع من مستوى فرد في أسرة قد يغير واقع الأسرة بكاملها.
إن المتأمل في أرقام الميزانية الضخمة لا يسعه إلا أن يشكر الله على هذا الخير العميم, وحتى نحافظ على هذه الثروة أعتقد أن الأمر يوجب التفكير في مزيد من الآليات التي تساعد على المحافظة على هذه الثروة واستثمارها بما يخدم الوطن وأجياله المقبلة. وفي ظني أن الجامعات ومراكز البحث لا بد لها من إيلاء الاهتمام لإيجاد مصادر الثروة بجانب النفط, إذ إن النفط مهما كان الاحتياطي لن يتسمر إلى الأبد, ويكفي أن نعلم أن مختبرات ومعامل ومراكز أبحاث الدول المستهلكة للنفط تعمل ليل نهار لإيجاد بدائل عن النفط, وهذا خير دليل على حاجتنا إلى البحث عن مصادر ثروة أخرى حتى لا نجد أنفسنا في مهب الريح, لا سمح الله. فالثروة التي بين أيدينا الآن يمكن استثمارها أفضل استثمار بإيجاد العقول وتدريب الكوادر واستكمال البنى التحتية, وهذا لا يمكن أن يتحقق بالصورة المطلوبة إلا إذا اعتمدنا مبدأ الأولويات في الصرف وتجنبنا الإسراف والتبذير على المستوى الفردي والأسري والرسمي.
الأجيال المقبلة لها حق علينا وذلك بإعدادها الإعداد الأمثل وتسليمها الوطن وهو في أفضل ما يكون من حيث القوة والمنعة والثراء المعرفي والتقني. وحسبنا أن نتعامل مع هذه الثروة ونحن ندرك أن العصر عصر التنافس والإنتاج والإبداع وإذا تقاعسنا عن الإنتاج فغيرنا يعمل وينتج ومن ثم نتحول إلى مستهلكين عالة على الآخرين ننتظر عطاءهم ومددهم, وهذا خلاف الاستخلاف في الأرض الذي يجب أن نكون من رواده بدلاً من أن نردد على أنفسنا عبارة هارون الرشيد حين ينظر إلى السحابة ويقول أمطري حيث شئت فخراجك سيصلني حيث كنت. إننا في عصر تكالبت فيه الأمم ولم يعد للضعيف فيه مكان, فهل نعمل وفق هذه الحقائق الواقعية والتاريخية, وحسبنا أن نأخذ من الطفرة السابقة عبرة ونؤسس عليها مستقبل حياتنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي