بنات الرياض وشبابه
في التسعينيات من القرن الماضي انفتحت شهية الكتاب والكاتبات في السعودية لكتابة الرواية.. شباب ومخضرمون، كتاب في المقالة السياسية وشعراء وأهل قصة قصيرة. علق الجرس بجسارة الدكتور غازي القصيبي في روايتيه "شقة الحرية" و"العصفورية"، وبعده جاء الدكتور تركي الحمد في ثلاثيته "أطياف الأزقة" وتواتر هطل الأعمال الروائية، حتى أن أحدهم من خارج الحدود وصف هذه الظاهرة بتسونامي رواية في السعودية.. ورغم أنني أشم رائحة سخرية في هذا التوصيف للحط من وزن المنتج الروائي السعودي، إلا أنني على يقين من أن هذا "التسونامي" ليس كارثيا وإنما هو على العكس تماما مران فني وإصرار على صياغة أعمال روائية متميزة.
هذا الاستهلال أملاه عليّ ظهور عملين روائيين في فترة متقاربة أحدهما "بنات الرياض" لرجاء الصانع، والثاني "شباب الرياض" لطارق بن بندر العتيبي.
وإذا كانت الرواية الأولى لشابة تتحدث عن شابات بينما الثانية لشاب يتحدث عن شبان، فإنني ـ ودون خوض في المستوى الفني للروايتين ـ أجد في هذين الإصدارين دلالة عينية لا شعورية تفضح طبيعة مزاجنا الاجتماعي وتراثنا الثقافي.
فلأول مرة ـ حسب معرفتي ـ تخترق الرواية تابو الشعر وتدخل نطاقا ما كان حكرا عليه، وهو ما يُعرف بالنقائض أو المعارضات في الشعر الفصيح أو "الرديات" وهو "شعر القلطة" في حلبات الشعر الشعبي وليس ذلك في ظني من قبيل المصادفة، كما أنه ليس من قبيل القصد والعمد بالدرجة الأولى، وإنما هو نابع من حوافز ذاتية لا شعورية تفاعلت في داخل الكاتب طارق العتيبي، فكتب روايته "شباب الرياض" جراء قراءته للأولى "بنات الرياض" التي حرضته بالتأكيد شهرتها على الالتفات إلى الجانب الرجالي بدلا عن الجانب النسائي عند رجاء الصانع.
وإذا كان جامعو الأدب ومؤرخوه يقولون "الشعر ديوان العرب" فقد سمعنا وقرأنا في السنوات الأخيرة عمن يقول إن الرواية أصبحت هي ديوان العرب. وبذا تكون روايتا رجاء الصانع وطارق بندر العتيبي أولى النقائض أو أولى معارضة روائية أو أول "ردية" في الفن الروائي، وكأنما الروايتان بهذا التقابل تؤسسان لفن المعارضة الروائي وتنقلان إلى الفن الروائي خصيصة كانت مقصورة على فن الشعر فحسب ـ كما أشرت.
روايتا الصانع والعتيبي، إذا، استدرجا تقليدا شعريا ليصبح تقليدا روائيا.. طبعا الفاعل الحقيقي في هذا الاستدراج (على الرغم منه ودون قصد) هو طارق بندر العتيبي كان المحفز، لا شعوريا، رواية "بنات الرياض" ـ كما أشرت أيضا.
على أن هذه المعارضة الروائية الوليدة ليست كالمعارضة الشعرية، تسير على ذات البحر والقافية وتعزف على ذات المعاني أو ضدها، بل هي فقط تعارض الموضوع من حيث الأنوثة والذكورة و"الفزعة" لهذا أو ذاك. كما أن "اجتراء" طارق العتيبي على كتابة معارضة روائية يتعدى "الفزعة" لأبناء جنسه، سواء لإدانتهم أو تبجيلهم أو حتى إدانة النساء، فليس هذا هو المهم.. إنه يتعدى ذلك إلى كون روايته هذه جاءت بمثابة أداة الكشف عن قوة تأثير نوعية مزاجنا الاجتماعي وتراثنا الثقافي ودورهما في تكريس نمطية الاحتذاء والتقليد وركوب الموجة ولو في الاتجاه المضاد شكليا. وهو طبعا سلوك يعبر عن سياق ذهني مازلنا راسفين في أغلاله، يجعلنا نهرول تلقائيا إلى تقليد كل عمل أو نشاط ناجح أو له شهرة أو يمثل مغنما. إن هذا الميل الجارف لفعل ما يفعله الآخرون، لمجرد أنهم حققوا فيه امتيازا يكاد يسم الكثير من مسلكياتنا الشكلية والعملية في مختلف الأنشطة، لذا نرى كيف تغص واجهات الشوارع بحوانيت تبيع السلع ذاتها أو تقدم الخدمات نفسها، كما تغص سوق العمل بحملة شهادات من ذات التخصص وتغص منازلنا بذات الأمتعة وذات الألوان والأذواق وما إن يبتكر أحدنا نشاطا جديدا أو يقدم منتجا مختلفا أو شأنا لافتا يحوز الإعجاب حتى يتراكض الكثيرون منا لاستنساخ ما فعله الأول دون أن نفكر في قدراتنا وإمكاناتنا وميولنا، وبأن ما ينجح فيه فلان أو يروق له قد لا ينال منه سوى الخسارة أو الحسرة علان.
غير أن لكل قاعدة شواذّ وهم الشواذ الرائعون، ليسوا أولئك الخارجين على القانون وإنما الخارجون على البلادة و"قاعدة الأواني المستطرقة" قحامون، يديرون ناصية الدنيا ويستفزون قامة الذهول لتطاول عنان المجهول، حتى ولو من خلال ممارسة أو فعل ذات العمل أو النشاط الذي نجح فيه غيرهم لكنهم يفعلونه على نحو ثاقب.. لا يؤتى إلا لمن ركب فرس التحدي وكر وما فر في النزال.