روسيا تحكم قبضتها على مصادر الغاز وتفرض شروطها على المستهلكين
قبل دقيقتين فقط من منتصف الأحد 31 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قبل رئيس وزراء روسيا البيضاء سيرجي سيدورسكي بشروط شركة غاز بروم الروسية للغاز، التي تقضي رفع سعر الألف متر بمقدار 123 في المائة، وإعطاء "غاز بروم" حصة 50 في المائة في شبكة نقل الغاز الخاصة ببيلاروسيا.
في المؤتمر الصحافي الذي عقده سيدورسكي فيما بعد، اعترف بأن مشاعر الإحباط كانت سائدة بين أعضاء وفد بلاده لاضطرارهم إلى التوقيع على اتفاق يرونه مجحفا في حقهم، لكن ما يعزيهم أنهم تجنبوا قطع الإمدادات عن مستهلكي بلادهم في فصل الشتاء، وكان يفترض في ذلك أن يتم بعد سبع ساعات، كما أنهم نجحوا في خفض قيمة ما يدفعونه إلى 100 دولار نظير كل ألف متر من الغاز بدلا من 105 دولارات كانت تطالب بها روسيا.
روسيا من جانبها وجدت أن تشددها مع حليفتها السياسية روسيا البيضاء يعطيها مصداقية أكبر. فمنذ تفجر أزمتها مع أوكرانيا في شتاء العام الماضي، وهناك اتهام لموسكو أنها تستغل وضعيتها المتميزة في سوق الغاز لفرض رؤاها وشروطها السياسية على المستهلكين.
تطبيق القواعد نفسها على نظام أليكسندر لوشينكو، الأقرب إلى التحالف مع موسكو، يعطي مصداقية أكبر لدعاوى "غاز بروم" أنها تتحرك لتطبيق سعر السوق على ما تبيعه من غاز، وإنهاء عهد توفير الدعم للجمهوريات السوفياتية السابقة. ويظهر هذا في أن روسيا البيضاء كانت تحصل على الغاز بسعر 47 دولارا لكل ألف متر.
تاريخيا شكلت دول أوروبا الشرقية السوق الرئيس لمبيعات الغاز الروسي، وكانت موسكو تستخدم ذلك في صراعها إبان الحرب الباردة مع الدول الغربية، لكن منذ عقد الثمانينيات تحولت روسيا إلى تنويع قاعدة زبائنها والسعي للحصول على سعر مجز تفرضه السوق لمبيعاتها للمستهلكين الذي طالت لائحتهم لتضم دولا آسيوية وأوروبية.
قبل ذلك بأسبوع توصلت "غاز بروم" وجورجيا على اتفاق يقضي بمواصلة الأولى تزويد الثانية باحتياجاتها، لكن بعد رفع السعر كذلك إلى 235 دولارا لكل ألف متر مكعب من الغاز، وهو ما يقارب سعر السوق الذي تدفعه الدول الغربية. جورجيا قبلت السعر الجديد على مضض، وذلك على أساس أنه حل مؤقت وقصير الأمد خاصة أن الإمدادات الروسية لا تغطي كل احتياجات جورجيا التي تصل إلى 1.8 مليار متر مكعب، توفر منها "غاز بروم" 1.1 مليارا فقط، كما أنها كثفت من جهودها لتوفير بديل يتمثل في اللجوء إلى "بي. بي" والحصول على الغاز من أذربيجان، جار جورجيا الشرقي من حقل "شاه دنيز"، وهذا الخيار أصبح متاحا بسبب استراتيجية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، الذي أصر على مد خط أنابيب من منطقة بحر قزوين لا يمر عبر روسيا. وهذا الخط الذي يتوقع اكتماله العام المقبل، مارا عبر جورجيا وينتهي في تركيا، سيوفر بديلا للغاز الروسي وذلك بعد الاتفاق مع تركيا على قيام جورجيا بأخذ حصة من الغاز الذي كان متجها إليها.
نجاحات "غاز بروم" خلال الشهر الماضي لم تقتصر فقط على فرض سعرها التجاري على زبائنها من الجمهوريات السوفياتية السابقة، وإنما شملت نقلة نوعية تمثلت في التوصل إلى اتفاقات مع الدول الغربية تسمح لها بالبيع مباشرة إلى المستهلكين بالتجزئة. وجاء الاتفاق الأخير بعد "غاز بروم" و"غاز دو فرانس" الفرنسية دعما لهذا الاتجاه الذي بدأ بالاتفاق بين "غاز بروم" و"إيني" الإيطالية.
الاتفاق مع الفرنسيين تم توقيعه في 19 كانون الأول (ديسمبر) الماضي بين أليكسي ميللر الرئيس التنفيذي لـ "غاز بروم" ورصيفه الفرنسي جيان فرانسوا سيريللي في موسكو. ورأى الأول في الاتفاق إسهاما في تعزيز أمن الطاقة في فرنسا وأوروبا، بينما رأى فيه الثاني أنه تأكيد على ضمان الإمدادات والتقيد بسياسة الاتحاد الأوروبي في الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية خدمة للمستهلكين. وبموجب الاتفاق ستتمكن "غاز بروم" من البيع مباشرة إلى الجمهور ابتداء من مطلع تموز (يوليو) المقبل، وتخطط الشركة لبيع 1.5 مليار متر مكعب كل عام ابتداء من العام المقبل، علما أن "غاز دو فرانس"، التي ستصبح الآلية التي تستخدمها "غاز بروم" لدخول السوق، تخدم 13.8 مليون مستهلك منهم 11.1 مليون في فرنسا. ومقابل هذا وافقت "غاز بروم" على تمديد تعاقدها مع "غاز دو فرانس" حتى عام 2030 وإضافة 12 مليار متر مكعب أخرى من الغاز إلى الإمدادات التي تذهب إلى الشركة الفرنسية.
وكانت "غاز بروم" قد توصلت إلى اتفاق مماثل، هو الأول من نوعه، مع شركة إيني الإيطالية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي تستمر بموجبه في إمدادها بالغاز حتى عام 2035 مقابل السماح لها بدخول سوق التجزئة الإيطالية. وتأمل "إيني" أن يهيئ هذا الاتفاق الأجواء لها لدخول ميدان العمليات الأمامية في مجال الغاز داخل روسيا.
لكن الخط الذي تتبعه "غاز بروم" حتى الآن يقوم على أساس توليها وحدها مسؤولية تطوير قدراتها الإنتاجية، وهو ما يظهر في قرارها تطوير حقل شتوكمان واستبعاد الشركات الأجنبية من المشاركة.
هذه التطورات أصابت العديد من المراقبين والساسة الغربيين بشيء من القلق من ناحيتين، أولاهما أن تضع كروت ضغط عديدة في أيدي موسكو، التي أصبحت توفر ما بين 30 و100 في المائة من الإمدادات للعديد من دول الاتحاد الأوروبي، مع ملاحظة أن إدارة الرئيس فلاديمير بوتين لا تخفي أنها تستخدم مواردها الهائلة من النفط والغاز لتمرير أجندتها السياسية، كما أن تزايد الاعتماد على روسيا لتوفير الغاز الذي تحتاج إليه الدول المستهلكة في أوروبا وغيرها يثير تساؤلات حول قدرة "غاز بروم" على الوفاء بكل هذه التعهدات، خاصة مع غياب أي مشاركة من الشركات الأجنبية تبدو مطلوبة لأسباب تتعلق بتوفير الاستثمارات والتقنية اللازمة للمضي قدما في مشاريع التطوير وزيادة الإنتاج.
"غاز بروم" لا تبدو مهمومة بهذا الجانب، ووفقا لإفاداتها الرسمية فإن أي زيادة في إنتاج الغاز ستأتي من الحقول القائمة وتلك المخطط لها ويتوقع أن تدخل مرحلة التنفيذ ابتداء من 2010، حيث سيكون التركيز بعدها على حقل "يامال" في الجرف القطبي في شرق سيبيريا. وهذه المنطقة تعتبر استراتيجية لـ "غاز بروم"، إذ توجد فيها 26 حقلا تم اكتشافها وتحتوي على 10.4 تريليون متر مكعب من الغاز كاحتياطيات مؤكدة، إلى جانب 250.5 تريليون من السوائل والمكثفات التي يمكن استخراجها.
وروسيا تعتبر الأكبر عالميا باحتياطياتها وحجم إنتاجها وصادراتها في مجال الغاز، فحجم الاحتياطيات المؤكدة يبلغ 1.680 تريليون قدم مكعب، وهي بذلك تشكل ضعف ما هو موجود لدى ثاني أكبر دولة لديها احتياطيات من الغاز وهي إيران، كما أنها تنتج 22.4 تريليون قدم مكعب تصدر منها 7.1 تريليون، وهو رقم ظل شبه ثابت خلال العامين الماضيين علما أن خطط "غاز بروم" المعلنة تدعو إلى نمو في قدرتها الإنتاجية في حدود 1.3 في المائة سنويا حتى العام المقبل، وهو ما يثير علامات الاستفهام حول قدرة روسيا على رفع قدراتها في هذا المجال، حيث يعطي الانطباع بعدم حدوث تطورات في ميدان صناعة الغاز مثلما شهدت صناعة النفط خلال السنوات القليلة الماضية.