في السيرة الذاتية

أن يكتب المهاتما غاندي "قصة تجاربي مع الحقيقة" وجواهر لال نهرو "من السجن إلى الرئاسة" وبيل كلينتون "حياتي" وسومرست موم "العصارة" ويكتب ديجول وتشرشل مذكراتهما ويكتب طه حسين "الأيام" وجابرييل ماركيز "أن تعيش لتحكي" وبابيلوتيرودا "أعترف أنني قد عشت" ومكسيم جوركي "حياتي" والعقاد "أنا" وغيرهم من مشاهير الشرق والغرب, ممن كتبوها بأقلامهم أو كتبها أحد عنهم كسيرة العظيم نيلسون مانديلا والروائية فيرجينا وولف والروائي أرنست هيمنجواي.. فتلك كتابات جوهرية مؤثرة لأنها تجمع بين المنفعة والمتعة، بين الكشف عن الظروف والملابسات والمشاعر والثقافة التي أسهمت في تكوين الشخصية, وبين تقديم رؤية بانورامية للعصر الذي عاش فيه صاحب المذكرات أو صاحبتها, شهادته على ما جرى وحدث أو شهادتها.
من يقرأ مذكرات فرانزفانون صاحب الكتاب الشهير "معذبون في الأرض" تهوله تفاصيل دقيقة عن بشاعات الاستعمار الفرنسي في الجزائر وإفريقيا, وعن المقاومة المذهلة والتضحيات الباسلة والكفاح المسلح وموسوعة تفاصيل إنسانية مدهشة. من يقرأ "أيام" طه حسين, يدرك كيف قهر هذا الأعمى الظلام وفتح بصائر أمة بكاملها وعلق شمس الوعي على مفارق أذهانها. من يقرأ "أنا" العقاد يعرف كيف تتحول الأمية بالإصرار والعزيمة إلى عبقرية تجعل الجامعات تسعى إلى صاحبها, من يقرأ "تربية سلامة موسى و"سبعون" ميخائيل نعيمة يعايش حرارة عناق الإبداع بالإنسانية.
أولئك كتبوا مذكراتهم بحبر المكابدة وثراء ما عاشوه من تجارب وخبرات. لكن أي قيمة حين يقترف أحدنا خطيئة كتابة سيرة حياته وهو كغيره من عباد الله عاش مدفوعا بتلقائية السنين؟ هل يكفي أن يكون الواحد منا طالبا نجيبا, حاز الدرجات العلمية, سافر, تغرب, تقلب في مناصب حكومية أو خاصة وكان لنا صحبة ومررنا بطرائف ومواقف ومقالب؟ هذا سياق لا يجعلنا منذورين لكتابة سيرة ذاتية، فتلك وقائع وقصص مكرورة منثورة على الطريق في كل ركن من أركان الدنيا .. ومن الهراء اعتبار ذلك كنزا ثمينا ينبغي أن يسمع عنه القاصي والداني وأن ينشر على الملأ في كتاب!
مصيبة لو أن الأمر في كتابة السيرة صار على هذا النحو. إذاً.. لكان علينا أن نقرأ مذكرات مئات آلاف الشخصيات العامة والخاصة من وزراء ووكلاء ومن رؤساء مجالس إدارات الشركات والمديرين العامين، ومن مختلف المسؤولين في البنوك والمصارف والمتاجر والأسواق والدلالين وكل الكتبة والكتاب والصحافيين والصحافيات.
السيرة الذاتية أو المذكرات شيء مختلف تماما, فهي ليست سردا باهتا باردا لما جرى وصار, ولا سبحات أحلام يقظة مفرطة في استعراض تضخم الذات لإرغام الناس على الالتفات إلى أهميتنا ونحن مثل ملايين البشر.
السيرة الذاتية رقصة الروح فوق بحر متلاطم من فيض المكابدات وتحت أفق مشتعل من وهج الرؤى، مستحيل أفلت من قبضة الإعاقة إفادة في محكمة الضمير تترجم بحميمية مقولة مكسيم جوركي "جئت إلى الكون لأعترض"، فضيحة المسكوت عنه وكشف حساب التردي والتحدي والنبالة والانكسار، بل هي معراج أرشيفنا السري إلى فضاء البوح والمكاشفة ومد اليد إلى كل المرايا التي مرت بها صورنا لإغرائها أو إرغامها لكي تخرج منها. وفي المنتهى تظل السيرة الذاتية الحقة بركانا لا تخمد حممه حتى بعد إكمال قراءتها وإقفال الكتاب بدفتيه.
وما دام الأمر كذلك.. وهو لابد أن يكون كذلك فماذا تضيف سيرة تحتفي بكاتبها بنرجسية فجة رخوة تتصور قراءها محفلا من البلهاء جاهزا للتصفيق لصاحبها وهز الرؤوس إعجابا به في حين أنها مجرد غثاء كتابة متهالكة، هشيم في هشيم؟ لن تجلب لصاحبها إلا ما جلبه ذلك التعيس لنفسه في قول جدنا المتنبي له:
"صغرت عن المديح فقلت أهجا
كأنك ما صغرت عن الهجاء"!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي