"وع.. كخا"

[email protected]

العنوان أعلاه.. مصطلح تربوي من إنتاجنا الوطني ورثناه كابرا عن كابر، رضعناه مع حليب الطفولة ومازال ساري المفعول. نقوله عادة لتنفير الطفل أو تحذيره أو تنبيهه للابتعاد عن اللمس لشيء ما، أو العبث به أو تذوق هذا الطعام أو ذاك الشراب.
غير أن أثر هذا المصطلح تجذر في أعماقنا وتمدد على مساحة حياتنا، صرنا نستخدمه أو مرادفاته أو ما يوحي بمعناه بإسراف ضد كل ما لا يروق لنا ولا يعجبنا، بغض النظر عن كون هذا الذي ندمغه بختم "وع... كخا" عملا جيدا أو مظهرا جميلا أو سلوكا حسنا. أو ليست كذلك.
هل جرّب أحدكم مثلا تأمل نفسه وهو في صحبة زوجته أو ابنته أو ابنه أو قريب أو صديق للتسوق وسمع من كان يصحبه وهو يشير إلى سلعة معروضة للبيع: (الله.. ما أروع هذه..) وتابع (ما رأيك؟!) بعضنا يكشر ويزم شفاهه ويصعر خديه وجبينه في الحال امتعاضا من هذا الذوق، جاعرا بحدة: "وع" ولا داعي لقول "كخا"، ففي مثل هذا الموقف الأولى تجب الثانية. والتقطيبات الكالحة على الوجه تجب الاثنتين معا.
نحن لا نسل هذا السلاح غير الحضاري، الصلف، الغليظ، الجلف، بل عديم الذوق والإحساس، في وجوه بعضنا بعضاً في السوق فحسب وإنما نشهره كذلك ضد كثير من الشؤون والحالات التي يتورط فيها أحدنا بأخذ رأي الآخر فيما هو معجب به أو ما وقع عليه الاختيار، أو ما قرر فعله، سواء في المأكل والملبس، في الألوان والروائح في الأغاني والكتب، في الحفلات والمناسبات، وحتى في جهات السفر والسياحة، أو تصاميم البيوت، وأخطرها وأشدها فظاظة وإيلاما تقريرنا مصير جمال الأشخاص، ذكائهم، أناقتهم أو أخلاقهم.. هنا تكون "وع" علبة بندورا للشرور التي يتكفل البعض منا بفتحها لتسميم العلاقات الإنسانية وتقطيع أوصال الصداقات والمعارف وزرع الحزازات كشوك شيطاني يتعذر نزعه.
أكثر من هذا .. فمصطلح "وع .. كخا" لا يقتصر استعماله على سلوك عموم الناس في مصالحهم وعلاقاتهم، وإنما يلجأ إليه المتعلمون والمثقفون، أو من يمكن تسميتهم بالنخبة، فما إن يثور نقاش فكري ثم ينحاز كل طرف لموقفه أو معتقده أو تصوره ورأيه، إلا ويطل ذلك المصطلح بوجهه المكفهر، ليعلو الضجيج ويخفت العقل في سبيل تسفيه فكرة الآخر ورأيه واعتبار ما يقوله نكرة وأمرا خطيرا لا بد من القضاء عليه وليس محاولة فهمه أو تفهمه إلى حد أن معظم الحوارات الثقافية العربية تظل مجرد حوار طرشان، وقد يتحول "الطرش" أحيانا إلى شتائم ثم عراك أو حروب. وما أوضاع العراق، لبنان، السودان، والصومال إلا نيران من شرارات هذه الـ "وع كخا" الكريهة!!
هل تراني بالغت؟ هل قمت بتحميل هذا المصطلح أكثر مما يحتمل؟ ربما! غير أن علماء النفس والتربية يقولون لنا إن السنوات الست الأولى من أعمارنا تلعب الدور الأساسي في تشكيل شخصياتنا، يقصدون بذلك البنية النفسية أو الفضاء العقلي أو الأرضية الوجدانية التي تحكم تصرفاتنا من فعل أو رد فعل.
وما دمنا أمة تتوارث إدمان رضاعة الـ "وع.. كخا" فهذا يعني أن بذور الزجر والردع والقمع غائرة فينا.. يفضحها تسلط أمزجة وأذواق وخيارات ومواقف بعضنا على بعض.. رغم أن كثيرين منا بلغوا في مراتب العلم والثقافة والخبرة والتجربة مراحل متقدمة فضلا عن الأسفار ومخالطة أمم وشعوب متقدمة. والغوص في أمواج المدنية والحضارة.. ومع ذلك لا تفتأ أفواهنا تفرقع على حين غرة الـ "وع .. كخا" في وجوه من نعزهم دون أن يندى لنا جبين.. فبأي سر نفسر ذلك؟ إن لم يكن بما سبق قوله؟.. ومن لديه اعتراض على ما قلت، فبالإمكان اعتبار هذا المقال في عداد الـ "وع.. كخا" دون حرج!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي