الإدارة المحلية.. الحلقة المفقودة (1 من 2)
تطرق الدكتور عدنان الشيحة في مقالين متتاليين إلى أهمية ترسيخ مفهوم الإدارة المحلية في الإدارة الحكومية وإعطاء المزيد من الصلاحيات للمناطق والمحافظات في إدارة شؤونها المحلية وفي تحديد أولوياتها التنموية. وقد أجاد الدكتور في طرح هذا الموضوع بشكل يدل على إطلاع متعمق وفهم دقيق لمختلف جوانب الموضوع الذي - وحسب إطلاعي الشخصي على الأدبيات الاقتصادية المتعلقة به وحسب قراءاتي المتعلقة بالتجربة الأمريكية في هذا المجال - تعتبر موضوعاً كثير التشعب والتعقيد لا يتعلق فقط بالجانب الإداري ولكن يتعداه إلى الجانب الاقتصادي. وحيث تركز الأدبيات في مجال التمويل العام Public Finance على المفاضلة بين المركزية واللامركزية على أساس تحقيقهما هدفين أساسيين: الكفاءة والعدالة. والكفاءة يتم تحديدها من خلال تحقيقها لمعيار أمثلية باريتو Pareto Optimality - والتي عند تحقيقها – لا يمكننا إعادة التخصيص والتوزيع للموارد لأن ذلك سيؤدي إلى تأثر أحد الأفراد على الأقل سلباً جراء ذلك. بينما يعد معيار العدالة أكثر تعقيداً، حيث إن العدالة تتعلق إما بعدالة الطريقة المستخدمة للتوزيع بغض النظر عن عدالة نتائجها Process Equity، أو تتعلق بعدالة النتائج النهائية بغض النظر عن عدالة الطريقة المستخدمة للوصول إليها End Results Equity. والمجال لا يتسع هنا للتوسع في الخلفية النظرية لكل من هذه المعايير وما أحب أن أؤكد عليه هنا هو أن عملية التحول من المركزية إلى اللامركزية تتطلب بشكل أساسي تحديد الوظائف التي يجب القيام بها بشكل مركزي والأخرى التي يجب أن يتم القيام بها بشكل لا مركزي. وقد أشار الدكتور عدنان إلى بعض الأمثلة المتعلقة بالوظائف التي يجب القيام بها مركزياً كمحاربة وباء معين مثلاً أو وظيفة الدفاع والأمن. ولكن أود هنا التأكيد على الأساس النظري لفكرة اللامركزية وذلك كإسهام في تدعيم أركان هذا الموضوع.
حدد ميوسقريف Musgrave الوظائف الاقتصادية للحكومة بأنها التخصيص للموارد Allocation، التوزيع Distribution، والاستقرار الاقتصادي Stability. ولكي نتصور النظام الأكفأ في إدارة الموارد الاقتصادية يجب تقييم النظام - المركزي أو اللامركزي - من خلال تحقيقه هذه الوظائف بشكل أكثر كفاءة. الاقتصاديون يجمعون على أن النظام اللامركزي يعد أكثر كفاءة في تحقيق وظيفة التخصيص للموارد Allocation أو بمعنى أبسط في عملية تخصيص المشاريع المختلفة. والسبب في ذلك أنه كلما كان تحديد الموارد لا مركزياُ كان ذلك أقرب إلى إشباع رغبات الأفراد ومن ثم أقرب إلى تحقيق أمثلية باريتو. وعلى العكس من ذلك كلما كان قرار التخصيص مركزياُ كان القرار أقل كفاءة لأنه سيكون بناء على حاجات قطاع أوسع من المجتمع، وكلما زادت المساحة المستهدفة بالتخصيص زاد على إثر ذلك اللاتجانس والاختلافات بين الأفراد، مما يؤدي إلى إشباع تفضيلات الناس بشكل أقل. وكمثال أقرب إلى واقعنا، وحتى لا يعتقد البعض أنني فقط أستخدم تنظيراً بعيداً عن الواقع، نتوقع أن يكون أعضاء المجلس البلدي في أي محافظة أو أي منطقة أدرى باحتياجات ورغبات أبناء محافظتهم من الشخص المسؤول الذي يعمل في إدارة الميزانية أو إدارة المشاريع لأي إدارة حكومية. ومن ثم، فبناء قرار التخصيص على توصية عضو المجلس البلدي الممثل لرغبات الأفراد الذين قاموا بانتخابه سيؤدي حتماً إلى إشباع رغبات الأفراد بشكل أفضل مما لو تم بنائه على توصية موظف إدارة الميزانية في أي وزارة لا يمثل إلا الجهة التي يعمل بها. أما عملية التوزيع – إعادة توزيع الموارد بين الأغنياء والفقراء - فيجمع الاقتصاديين على أن القرار المتعلق بها يجب أن يكون مركزياُ والسبب في ذلك هو حرية الحركة بين المناطق والمحافظات المختلفة Mobility. فمن الصعب على أي محافظة القيام بعملية التوزيع لأنه من الصعب تحديد حركة أفراد المجتمع فيها ومن ثم تحديد المستفيدين الفعليين منها. وبافتراض أن محافظتين متجاورتين الأولى قامت بمنح مساعدة للفقراء بها والثانية لم تقم بذلك، فمن المنطقي أن نتوقع أن ينتقل الفقراء من المحافظة الثانية إلى الأولى. ولو قامت المحافظة الأولى بتمويل ذلك من خلال فرض ضريبة على أرباح التجار العاملين بها فمن المنطقي أن ينقل التجار المقيمون فيها أعمالهم إلى المحافظة الثانية مما سيؤدي إلى تركز الفقراء في المحافظة الأولى والأغنياء في المحافظة الثانية. لذا فمن المثبت نظرياً أن عملية التوزيع المركزي هي الأكثر كفاءة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الولايات المختلفة في الولايات المتحدة تضطلع بمهمة إعادة التوزيع وبرامج الرفاه Welfare Systems بجانب الحكومة المركزية. وهذا - كما يؤكد الكثير من اقتصاديي التمويل العام - له أثر سلبي في كفاءة التوزيع، ولكن يظل للتجاذبات السياسية دور كبير في اضطلاع الولايات بهذه المهمة.
الوظيفة الثالثة وهي الاستقرار المالي والاقتصادي وهي بلا جدال وظيفة يجب أخذها مركزياُ وذلك لأن القيام بها على نطاق لا مركزي سيؤدي إلى اضطرابات في الجهاز النقدي كما سيؤدي إلى توسع الأقاليم في عملية إصدار الدين العام الذي يفترض أن يكون إصداره محكوماً بشكل مركزي.
إذاً، فمن الواضح من هذا العرض الاقتصادي المبسط أن الوظيفة الوحيدة التي يمكن الأخذ بها لا مركزياً هي وظيفة تخصيص الموارد. وتحديد الاحتياجات الانفاقية من قبل المناطق أو المحافظات نفسها وترك الخيار لهم لتحديد أولوياتهم سيؤدي إلى كفاءة أكثر في توظيف الموارد وتمثيل أفضل لرغبات واحتياجات الناس. السؤال كيف يتم تحديد الأولويات؟
الفرع الثاني من الاقتصاد العام وهو الخيار العام Public Choice ممثلاُ في قائده جيمس بيوكانان James Buchanan يهتم بعملية تحديد القرار جماعياً Collective Decision Action ومدى أهميته في تحقيق الكفاءة في استخدام الموارد، مع أنه يختلف مع نظرية التمويل العام Public Finance في النظرة إلى هدف الحكومة أو الموظف الحكومي الأمر الذي يؤثر في طريقة المعالجة التي تتبعها النظرية، إلا أنها تضع أساساً اقتصاديا للكفاءة الناتجة عن المشاركة العامة في اتخاذ القرار. وليس هنا أيضاَ مجال للتوسع في الجانب النظري لهذا الفرع ولكن مضمونه يركز على أن المشاركة الجماعية في اتخاذ القرار من خلال التصويت له دور أساسي لا يمكن إغفاله في تحقيق الكفاءة في توظيف الموارد.
ما تقدم أردت به أن أوضح أن النظرية الاقتصادية تطرقت إلى موضوع اللامركزية وأكدت فعاليتها في عملية تخصيص الموارد ولكن يبقى في تحليل الدكتور عدنان شيئامفقود وتساؤلا لم تتم الإجابة عنه. فبافتراض أن الصلاحيات بتخصيص الموارد أعطيت لكل منطقة أو محافظة، وطلب من كل منطقة تحديد احتياجاتها من المدارس والطرق والمرافق، ما هو التصرف المتوقع للأشخاص وممثليهم في المجلس البلدي في هذه الحالة؟ الأفراد في هذه الحالة سيقومون بتعظيم منافعهم وسيطلبون أقصى ما يمنكهم الحصول عليه، وممثلوهم ورغبة منهم في تحقيق رغبات منتخبيهم ليقوموا بانتخابهم مرة أخرى سيعملون على تحقيق ذلك. وهذا سيؤدي إلى تضخيم الميزانية العامة بشكل كبير. كما أن ما أشار إليه الدكتور عدنان من التخصيص المتساوي أو بناءاً على تعداد السكان لا يحقق الكفاءة في استخدام الموارد. فالتخصيص - لكي يكون كفئؤا - يجب أن يرتكز على الاحتياج الفعلي للمنطقة أو المحافظة وهذا أمر مستقل عن التعداد السكاني ولو أنه عامل مهم يجب أخذه في الاعتبار. فالمنطقة الجنوبية مثلاً تتطلب استثمارات أكثر من المنطقة الشرقية أو الشمالية لبناء طرق سريعة بالأطوال نفسها، وهذا ليس له علاقة بقريب أو بعيد بتعداد السكان بل يعتمد بشكل أساسي على تضاريس المنطقة. إذاً هناك حلقة مفقودة لم يتم بعد كشفها ولو أنني أجزم أنها لا تخفى على الدكتور عدنان، وسأحاول الإجابة عليها في المقال المقبل بإذن الله.