على قدر أهل العزم تأتي العزائم
تقاس فاعلية أي نظام اقتصادي بمدى نجاحه في تحقيق هدفين: الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. وقد بينت التجارب أن إطلاق العنان للمنافسة بين الأفراد والمؤسسات أثناء ممارستهم أنشطتهم الاقتصادية، يضمن إلى حد بعيد تحقيق هدف الكفاءة الاقتصادية المتمثل في ارتفاع جودة المنتجات وانحسار تكاليفها. لكن النظام الاقتصادي الجيد يحتاج بجانب المنافسة إلى آليات وترتيبات وأنظمة تضمن عدالة توزيع الموارد والدخول والفرص التجارية بين أفراد المجتمع. إن ضمان المنافسة والعدالة يفتح للمجتمعات آفاقا لا حدود لها من الإبداع والرواج الاقتصادي.
ومن ناحية أخرى، فإن الأهداف الاقتصادية العظيمة للأمم لا تنجز بين عشية وضحاها، وإنما من خلال جهد تراكمي من العمل المنظم الجاد المخلص الدؤوب. لذلك كانت النقلات الحضارية الكبرى للمجتمعات الناجحة، هي نتاج جهود طموحة تتصف بالرغبة الصادقة، والنظرة الثاقبة، والحيوية الدائمة، والهمة العالية، والبصيرة النافذة، سواء عند اختيار الأهداف الاقتصادية، أو عند تبني البرامج التي تقود الاقتصاد نحو تلك الأهداف. ولأن الوقت ثمين جدا في يوم الناس هذا، الذي تموج فيه المنافسات بين الأمم والشعوب، فإن التوثب الدائم لاتخاذ القرارات الجريئة والصحيحة في الوقت الملائم، أصبح من المقتضيات المهمة والضرورية للانطلاق والنجاح.
إن الأمم التي ران على أوضاعها الجمود والتخلف حينا من الزمن، تحتاج إلى قوى دفع جديدة، وأفكار وضاءة، وبرامج حديثة، وطاقات شابة طموحة تنقل المجتمع بخطوات وثـّابة نحو مستويات جديدة من التطور. ومن حسن الطالع، أن اقتصادنا زاخر بإمكانات مادية عظيمة وفرص استثمارية كبيرة، تجعل بمقدورنا بلوغ ما بلغه الآخرون وربما أكثر، متى ما تخلصنا من أساليب الإدارة البالية وطورنا أنظمتنا التجارية والقانونية العتيقة. حقا ما أحوجنا اليوم إلى الأفكار الخلاقة والطاقات المبدعة التي تُحسّن إدارة مواردنا لتحيي في اقتصادنا مزاياه النسبية التي يتفوق بها على غيره، وتدفع به قدما نحو مرحلة الانطلاق الكبرى التي تليق بحجم إمكاناته وعدد فرصه الذهبية.
وإذا تركنا العموميات، فإنه يحضرني على سبيل المثال ونحن نقترب من موسم الحج، واحدة من تلك الفرص التي كنا أولى بالسبق والريادة فيها من غيرنا. إنها مؤسسة طابونج حاجي الادخارية التي أنشأتها ماليزيا منذ نحو أربعة عقود لتمكن المسلمين، ليس فقط في ماليزيا بل في أي مكان من بقاع الأرض، من أداء فريضة الحج من خلال برنامج ادخاري فذ (ولعلي أتناول قصة هذا النجاح المذهل لهذه المؤسسة الادخارية في مقال مقبل). فمن كان أولى بالسبق والريادة برعاية وتبني مثل هذه المؤسسات التي تخدم الحجاج، نحن أم ماليزيا ؟ وكان قد عرض علينا أيضا، قبل عدة سنوات من إحدى الشركات الماليزية، فكرة إقامة مشروع خط حديدي معلق يربط مكة المكرمة بالمشاعر المقدسة. بحيث تتحمل هذه الشركة جميع تكاليف إنشائه وتشغيله لعدد معلوم من السنوات حتى استرجاع تكاليفه مع هامش ربح معقول، ثم تقوم بتسليمه وتمليكه إلينا. ولا أعرف إلى أين انتهى مصير هذه الفكرة. لكن تزايد أعداد الحجاج سنة بعد أخرى يستدعي التفكير الجدي في إعادة الروح إلى هذه الوسيلة الفاعلة والآمنة، ليس للنقل بين المشاعر المقدسة في مكة المكرمة، بل بين مكة, حرسها الله, وبين المدينة المنورة أيضا.
والآن تقدمت إحدى الشركات الماليزية التي تدير أكبر مطارات ماليزيا (بالشراكة مع إحدى مؤسساتنا الوطنية) بعرض لإدارة وتطوير وتشغيل صالة الحجاج في مطار الملك عبد العزيز في جدة، وفق نظام البناء والتشغيل ثم نقل الملكية للطرف الحكومي، فنرجو مخلصين ألا تقف القيود البيروقراطية عائقا أمام مثل هذه الفرص التي ستمد صالة الحجاج بجرعة من الحيوية والنشاط وترفع من كفاءته وتولد لشبابنا عددا من فرص العمل.
لماذا نحتاج إلى سنوات وعقود حتى نكتشف أن المنافسة أفضل لنا ولاقتصادنا من الأشكال الاحتكارية أو شبه الاحتكارية لأنشطة هي بطبيعتها تجارية بحتة يمكن أن تدار بكفاءة أعلى وتكلفة أقل إذا تركناها للقطاع الخاص؟
تناولت في مقال الأسبوع قبل الماضي قضية الاختناق الملموس في خدمات النقل الجوي الداخلي، بسبب الاحتكار الذي انتهيت دواعيه منذ زمن بعيد. والحمد لله، ما كادت تمر أيام على مقالي آنف الذكر، حتى صادف أن هل البشير وجاءتنا الأخبار بمنح أول امتياز لشركة طيران محلية ستنافس "الخطوط السعودية" في تقديم خدمات النقل الجوي الداخلي منخفض التكاليف. وهذا تطور جيد، فأن يأتي الإصلاح متأخرا خير من ألا يأتي مطلقا.
لكن هناك مسألة أخرى – كما ذكرت في بداية مقالي- لا تقل أهمية عن مسألة فتح باب المنافسة وهي مسألة العدالة في توزيع فرص الاستثمار الكامنة في اقتصادنا. ففي مثل هذه الفرص الجاهزة وذات المخاطر المنخفضة، يجب حجز نسبة لا تقل عن 50 في المائة منها لعامة الناس. بحيث يكون منح امتياز استغلالها مشروطا بقيام المؤسسين بتكوين شركات مساهمة يتعهدون فيها بطرح نصف ملكيتها على الأقل للاكتتاب العام. يجب أن تكون لنا نظرة ثاقبة عند منح الامتيازات وتوزيع خيرات البلاد حتى لا نجد مجتمعنا بعد حين من الزمان وقد تراكمت الثروات فيه في أيدي فئة من التجار، مع اضمحلال طبقته الوسطى التي تمثل صمام أمان لرواج الاقتصاد واستقراره.
لم يعد هناك مجال لإضاعة الفرص، فالحياة تتغير، والمسؤوليات تتعاظم، والتحديات تتكاثر، فلنشمر عن ساعد الجد والإخلاص! لقد تعطل تقدم دول لديها إمكانات مادية وبشرية كبيرة، كالصين المنغلقة سابقا والاتحاد السوفياتي المنهار، بسبب افتقادهما الأسواق التنافسية، وبسبب نظامهما الاقتصادي الشمولي الذي لم يسمح برؤية الأخطاء وتصحيحها. إن المنافسة قوة مهمة للتنمية والنمو. فمن بين كل القوى البشرية التي يمكن أن تؤثر في الأنشطة الاقتصادية، ليس هناك ما هو أقوى من المنافسة! فلنطلق للمنافسة العنان وسنرى صنوف الإتقان !