لا تسألوني عن الأسهم.. فالصورة واضحة

أحس بصراحة في بعض الأحيان بحالة من الغرور الداخلي عندما أجد نفسي في معظم الأماكن التي أقصدها سواء في المطار أو في الشارع أو المحل التجاري وحتى على متن الطائرة أُسأل عن سوق الأسهم وأين يتجه في قادم الأيام؟ وكأننا صرنا وفي غفلة من بصارات التلفزيون.
والسؤال الرئيس هذه الأيام هو هل وصل المؤشر إلى القاع؟ وكأنه اعتراف ضمني بأنا ابتعدنا كثيرا عن هذا القاع في السابق، رغم ترديد نظريات كثيرة لأسباب ما حدث وكيف حدث! وهل يمكن أن يعود في القريب العاجل؟ وغيرها من الأسئلة. فالكثير من الذين اكتشفوا أنه في موجة أخذتهم عاليا ومن ثم رمتهم في قاع بحر هائج لا يعرفون كيف يسبحون فيه مع كل أنواع الأسماك من هوامير وأسماك قرش وحتى حيتان مهاجمة. وبما أنه اتضح أكثر فأكثر كم أن المواطنين على اختلاف درجات أعمالهم ومستويات دخولهم المادية متورطون في سوق الأسهم بشكل مباشر أو عن طريق صناديق الاستثمار عن طريق القطاع البنكي. وهو أمر واضح أننا نعيش في كارثة حقيقية، حيث تضعضعت قدرات هؤلاء المستثمرين. فقد بلغ مجمل ما تبخر من قيمة السوق والتي كانت تعتبر شحوما زائدة كحقيقة اقتصادية (تضخم في قيمة الأصول) ولا بد من التخلص منها حيث نفخت إلى مستويات تعادل ثلاثة أضعاف الناتج المحلي، وحتى كتابة هذا المقال بلغت قيمة التراجع ما يقرب من تريليوني ريال مقارنة بأعلى نقطة وصلها المؤشر في 25 شباط (فبراير) هذا العام. وهي تبخرت بكل بساطة كما قالها لي أحدهم مع دمعة واضحة حاول ألا تنزل من عينه أمامي (مع ملاحظة أن المتبخر أكثر من هذا بسبب نسب التذبذب اليومي والتي تصل في كثير من الحالات إلى 20 في المائة ما بين الموجب والسالب خلال فترة التداول).
بكل أمانة فإني أتعاطف كثيرا بكل صدق مع هؤلاء المتضررين وأتمنى لو أملك الطريقة للمساعدة، وهي كما قلت وقال غيري كثير، كارثة تحتاج إلى خطة إنقاذ واضحة المعالم من أعلى المستويات لمواجهة تبعاتها والتعاطي مع النتائج التي ستترتب على تلك المأساة. حيث ظهر جزء من تبعات تلك الكارثة وستظهر أجزاء أخرى في قادم الأيام، حيث إن الاختلال في القدرات المالية لشريحة عريضة من المجتمع سيكون له انعكاسات اقتصادية كبيرة على المديين المتوسط والطويل، من خلال الدورة الاقتصادية، خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار أنه ونتيجة لكثير من السياسات الحكومية الرامية إلى الإصلاح والتنظيم سيزيد الضغط على الأسعار الاستهلاكية والتي منها برامج الإحلال بين المقيمين والسعوديين. وهي على كل حال حقيقة واضحة والمستهلك العادي يلمس تلك الزيادات وإن بدأت بشكل طفيف حتى لا يحس بها بشكل مباشر.
وقبل الحديث عن تفاصيل أكثر، وهو الأمر الذي أرجعني له مقال الأسبوع الماضي حيث الكثيرون انتقدوا فكرة المقال، ووصفوها بالهروب من سوق الأسهم وأنه لم يعد لدينا (نحن المحللين الماليين) الكثير حتى نتحدث عنه، أقول بصراحة لدينا الكثير والكثير ولكن المشكلة أن من يسمع قد لا تعجبه النغمة كثيراً والصراحة دائما مؤلمة، ولكن أيضا مؤمن أن الصديق من صدقك لا من صدقك.
وحتى لا يثور القارئ العزيز بنعتي بكل الأوصاف والتي تصرف مجانا هذه الأيام وفوقها هدايا والذي هو المعني في الكثير مما أكتب حيث وعيه كفيل بأن يستقر السوق ويضيق الخناق على من يحاول اللعب في السوق والذين يفتقدون إلى الحد الأدنى من المعرفة في خفايا السوق، فيما من استغلوا الحدث يفتقدون الحد الأدنى من الأخلاق. وعندما تكون تلك المعادلة مستوى متدنيا من العلم ومستوى متدنيا من الأخلاق لشريحة محددة قادرة ومستغلة تكون النتيجة كما شاهدنا. لكن رغم ذلك أقول إن هناك تحليلا اقتصاديا للسوق وهو من الناحية العملية يبرر ما حدث من تراجع حيث لا يمكن قبول أن يكون حجم السوق من ناحية القيمة السوقية يفوق الناتج المحلي بثلاثة أضعاف ونحن ما يزال القطاع الحكومي يسيطر على الاقتصاد وبنسبة تفوق 75 في المائة، على أقل تحديد (إيرادات النفط ليست ممثلة في مؤشر سوق الأسهم). رغم أننا قد نختلف على الطريقة التي حدث بها هذا التصحيح، ولكن منذ متى يمكن السيطرة على هبوط اضطراري بهذا الشكل. وما حدث يشبه إلى حد ما حالة شخص وجد نفسه أنه تعدى الخطوط الحمر وأفرط في السمنة بحيث إن الدكتور أكد له فجأة أنه أمام حل من اثنين، فإما إنزال الوزن فوراً وبشكل عاجل، أو الانفجار الذي قد يؤدي إلى الوفاة أو الدخول في غيبوبة لا يعلم إلا الله مداها. وبالتالي كان الخيار أمام هذا المريض والذي بكل أسف لم يسمع الكلام قبل الوصول إلى تلك المرحلة هو الحمية القاسية جداً بسبب هذا الخوف الذي دخل صدره من كلام الدكتور الخبير. ولكن المشكلة ونتيجة الخوف والارتباك والذي عادة ما ينتج عنه قرارات ارتجالية رغم صحة التشخيص من طبيب متمكن، ولم يكن هناك في الأصل داع لهذا الطبيب فالسمنة المفرطة واضحة ويشير لها الصغير قبل الكبير والجاهل قبل العالم، إلا أن وكما قلت كون المريض في حالة ارتباك كان تنفيذ الحمية بشكل عشوائي وبدون رقابة ومتابعة واضحة حتى يكون هناك تدرج في التخفيف أدى ذلك إلى حدوث وفاة دماغية لهذا المريض بسبب عشوائية الحمية القاسية والسريعة. إن هبوط السوق بكل صراحة كان هبوطا اضطراريا بمعنى الكلمة، لكن المشكلة أن هذا الهبوط كان بدون سابق إنذار من القائد إذا وجد وبالتالي لم يكن يربط الحزام إلا من علم أو أحس أو اتبع المنطق وليس الواقع. قد لا تعجب الكثيرين لغة الرموز ولكنها اللغة التي تعطي المزيد من الإيضاح للصورة.
وبعيدا عن الرموز والترميز أقول إنه وبسبب "طبقية التفكير الاقتصادي" والفجوة الواسعة بين الأجهزة المسؤولة وبين الشرائح الاقتصادية من مستثمرين وإعلام اقتصادي كانت النتيجة ألا أحد يقرأ الرسائل، وإن قرأها لا يفهمها بشكل سريع. هذه قصة سوق الأسهم، وهي توضح بجلاء وبدون رتوش أن الجميع بدون استثناء مسؤولون عما حدث ويحدث. ولا أتفق مع من يحاول في كل مرة يحدث تراجع أكثر أن يجد كبش فداء أو شماعة يعلق عليها نتائج ما حدث، مرة تتهم الأجهزة الحكومية ومرة الهوامير ومرة صناديق الاستثمار ومرة التمويل ومرة مؤامرة إمبريالية من القوى العظمى. ولا أعلم في قادم الأيام المقبلة من سيكون المتهم في هذا السوق الذي بكل أسف أكل الأخضر واليابس والنتيجة كلنا خاسرون ولم يربح إلا من قرأ وفهم جيدا منذ اليوم الأول أين نحن متجهون وما هي نهاية هذا الطريق. على كل حال وكما هي الحال عندما تتصادم أو تُصدم سيارتكم في شوارع الرياض، قدر الله وما شاء فعل، ومن ثم يأتي رجل المرور وكل هدفه أن ينهي هذا الحادث بأن يوافق المتصادمون على أن كل واحد "يصلح سيارته" باسم مشيئة الله والتي لا راد لها.

محلل مالي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي