أسعار المحروقات بين رفاهية المواطن وسلبيات التغير المناخي

أسعار المحروقات بين رفاهية المواطن وسلبيات التغير المناخي

الأمر السامي الكريم بتسعير لتر الجازولين الأخضر بـ 45 هللة جعل أسعار الجازولين في المملكة من الأرخص في العالم، وبذلك نكون مع فنزويلا (يقدر سعر لتر الجازولين بنحو 25 هللة) ونيجيريا (يقدر سعر لتر الجازولين بنحو 40 هللة) أرخص دول العالم على الإطلاق، مع الأخذ في الاعتبار أن مستوى المعيشة في المملكة أعلى بكثير من هاتين الدولتين.
ويجب الانتباه إلى حقيقة أن تكلفة إنتاج الجازولين تشمل ثمن الخام وتكلفة التكرير والتسويق والتوزيع. كما يجب ألا ننسى أن الكثير من دول العالم تفرض ضرائب باهظة على قطاع الوقود المستخرج من النفط، وعلى سبيل المثال يعرض جدول (1) تكاليف إنتاج الجازولين في الولايات المتحدة. ومن المفيد ذكره أن أسعار الجازولين في الولايات المتحدة مستقرة إلى حد كبير، فسعر لتر الجازولين يتراوح حول ريالين للتر منذ 80 عاما مع أخذ التضخم في الاعتبار، وأيضاً مقبولة نوعاً ما إذا ما قورنت بنحو سبعة ريالات في دول أوروبا الغربية والدول الاسكندنافية وبنحو أربعة ريالات في اليابان.
على الرغم من تفاوت أسعار الجازولين في العالم إلا أنها لا تزال متواضعة الربحية مقارنة بشقيقتها الصغرى الصناعات البتروكيماوية، فمثلا يترواح معدل سعر الطن من الجازولين (عام 2006) بين 400 و500 دولار مقارنة بنحو 900 إلى 1000 دولار للطن من مادة البنزين العطري، وبنحو 1000 إلى 1100 دولار للطن من مادة البارازايلين العطري. ومن المضحك أن هذه المواد العطرية (البتروكيماوية) الباهظة الثمن هي من أهم مكونات الجازولين الضارة للصحة والبيئة، وبناء عليه فإن صناعة الجازولين تواجه اليوم تحديات عديدة من أهمها:
* إنتاج جازولين عالي الجودة يكون قادراً على توليد الطاقة الحركية بفاعلية وبسعر مقبول للمنتج وللمستهلك.
* الاستثمار في هذه الصناعة يحتاج إلى رساميل طائلة.
* تواضع ربحية هذه الصناعة بوضعها الحالي.
* الالتزام بالمعايير البيئية.
ويجب الانتباه إلى أن الالتزام بهذه المعايير البيئية غاية في الصعوبة وباهظ التكاليف (مثلا تقدر قيمة تقليل الكبريت في الجازولين ليصل إلى أقل من 30 جزءا من المليون في الولايات المتحدة نحو عشرة مليارات دولار)، كما أن هذه المعايير أضحت تهدد مستقبل هذه الصناعة، حيث إن الصرامة في تحديد الحد الأدنى لبعض مواد الجازولين الضارة للصحة والبيئة (مثل مركبات الكبريت والمواد العطرية وغيرها) تزداد سنة بعد سنة، الأمر الذي ألقى بثقله على أصحاب هذه الصناعة حتى أصبحت كالكابوس.
والحقيقة أن أحد أسباب ارتفاع أسعار النفط الخفيف (المحتوى على كميات قليلة جداً من الكبريت) هو صدور التشريعات البيئية المتعلقة بتخفيض كمية الملوثات في الهواء في أوروبا الغربية وأمريكا واليابان، وما ترتب عليها من ضرورة إنتاج مشتقات نفطية نظيفة (جازولين وديزل وزيت وقود)، في الوقت الذي لم تكن فيه معظم مصافي العالم تمتلك التقنيات اللازمة لنزع المركبات الضارة وخاصة الكبريتية من المشتقات النفطية، الأمر الذي أثر في إنتاج هذه المشتقات بكميات كبيرة، ما دفع صنّّاع التكرير لأن يتجهوا لتكرير النفط الخفيف (المحتوى على كميات قليلة جداً) ما زاد الطلب على هذا النوع من النفط، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعاره.
وبالنسبة لموضوع الملوثات البيئية، فإنه من المعلوم أن احتراق الجازولين الكامل مع الهواء داخل المحرك ينتج عنه مركبان مقبولان بيئياً نوعاً ما، وهما بخار الماء (لا مشكلة بيئية معه) ومركب ثاني أوكسيد الكربون (كثرة انبعاثات هذا المركب سبب رئيس لظاهرة الاحتباس الحراري)، لكن وجود مركبات الكبريت والنيتروجين في الجازولين ينتج أيضاً أكاسيد الكبريت والنيتروجين، اللذين يصنفان بأنهما مركبات شديدة الخطورة على البيئة وصحة الإنسان (لعلاقتهما بالأمطار الحمضية)، لذلك كان تحديد كميات وجودهم في الجازولين أمراً لا يقبل التنازل، وبالنسبة للغرب قد يكون أهم من الجازولين نفسه، فسارعت دول العالم وبالأخص المتقدمة صناعياً وبوعي كامل منها إلى إنشاء وكالات مختصة ومستقلة عن شركات النفط والشركات البتروكيماوية والصناعية الأخرى، بحيث تقوم هذه الوكالات بدور تشريعي وتنفيذي لسنّ القوانين المتعلقة بالوقود والبيئة، وتملك هذه الوكالات سلطات واسعة لمعاقبة كل من لم يلتزم بهذه القوانين والمعايير البيئية.
فعلى سبيل المثال حددت هذه الوكالات في دول الاتحاد الأوروبي نسبة الكبريت في الجازولين بنحو 50 جزءا من المليون ppm، ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة عام 2009 إلى أقل من 10 أجزاء من المليون. أما في الولايات المتحدة فتم تحديد نسبة الكبريت عام 2006 إلى 30 جزءا من المليون، وتسير الدول الآسيوية الكبرى مثل الهند والصين في ركاب هذه الدول لتطبيق قوانين صارمة بشأن تحديد كميات الكبريت المسموح بها في الجازولين.
ويبدو واضحاً أن العالم الصناعي متجه بخطى ثابتة لجعل الجازولين خالي تماماً من الكبريت، الأمر الذي يلزم صناعة التكرير في الشرق الأوسط إلى الاستعداد لمثل هذا الأمر المتوقع بزيادة الاستثمارات والبحث العلمي، حيث إنه من المتوقع أن يكون لهذه الدول فائض بقدرتها التكريرية (بسبب المشاريع التي تم الإعلان عنها) على عكس الوضع في الدول الصناعية التي لا تشهد أي زيادة مهمة في قدراتها التكريرية، ما يجعل هذه الدول سوقاً لا مثيل لها للمشتقات النفطية المنتجة في الشرق الأوسط، لكن يجب إدراك حقيقة أن هذه الدول لن تشترى لتراً واحداً من هذه المشتقات ما لم تكن مطابقة لمواصفاتها البيئية.
وفي الختام، ما من شك أن أسعار الجازولين المنخفضة جداً لدينا في المملكة هو أحد أسباب الرفاهية والحياة الكريمة التي أرادتها القيادة السياسية في هذا البلد المعطاء لكل من يعيش على هذه الأرض الطيبة من مواطنين ومقيمين، ولكن استهلاكنا الهائل لهذه المادة (التي غالباً ما تحتوي على بعض المواد الضارة بيئياً) قد ينذر ببعض المشاكل البيئية في المستقبل، لذلك يعتبر من الأهمية وجود برنامج وطني لفحص مدى تأثر هوائنا وتربتنا ومياهنا الجوفية بالملوثات الصادرة عن احتراق الجازولين خاصة في المدن الكبيرة والمزدحمة، هو أمر شديد الأهمية من أجل المحافظة على بيئة صحية وسماء صافية وهواء عليل.
[email protected]

الأكثر قراءة