هل تضيع الحقوق بالتقادم؟!
قرأت في إحدى الصحف أن يهودياً فرنسياً أقام دعوى على سكة الحديد الفرنسية أمام محكمة فرنسية بحجة أن سكة الحديد نقلت عائلته إلى معسكر نازي وتم قتل عائلته في ذلك المعسكر فيما بعد. وكانت النتيجة أن المحكمة حكمت له بالتعويض وألزمت سكة الحديد بدفع العوض عقاباً لها على قيامها بنقل العائلة من مكان لآخر. ومما يستدعي الانتباه في هذا الخبر أنه قد يوحي بأن ما فعلته المحكمة ما هو إلا ممارسة تستهدف تحقيق العدل وإعادة الحقوق إلى أصحابها مهما مضى عليها من زمن وهي بهذا الحكم تؤصل مفهوم عدم ضياع الحقوق مهما تقادم عليها الزمن, والمحكمة بهذا الحكم تتفق مع أحد أهداف الثورة الفرنسية التي تؤكد العدل بين الناس. وانطلاقاً من هذا المبدأ يمكن مناقشة المحكمة في قرارها هذا من عدة أمور أولها أن الحكم قد يكون مجحفاً في حق سكة الحديد إذ إن من البديهي والمتعارف عليه في كل أنحاء العالم المتقدم منها والأقل تقدماً أن وظيفة وسائل المواصلات المنوطة بها من الحكومات أو الشركات القائمة عليها هي نقل الناس والمسافرين من مكان إلى آخر وما قامت به سكة الحديد الفرنسية هو أداء لواجب لا أكثر ولا أقل, فمن الخطأ أن ترفض سكة الحديد وغيرها من وسائل المواصلات نقل الأشخاص, كما لا أتصور أن تقوم الشركة بإجبار العائلة اليهودية أو غيرها على السفر معها, أما إن كانت الشركة مجبرة على نقل هذه العائلة وغيرها من قبل الحكومة الفرنسية أو المحتل الألماني, فما ذنبها في ذلك؟ وعلى الرجل اليهودي مقاضاة من أجبر سكة الحديد سواء الحاكم الفرنسي في ذلك الوقت, أو المحتل الألماني, إذ ليس في مقدور شركة سكة الحديد رفض مثل هذا الأمر.
وعوداً على مفهوم العدل الذي انطلقت منه المحكمة, ونحن نؤيدها في هذا التوجه, يحسن بنا أن نشير إلى عدة أمور قد يكون من المناسب طرحها في هذا المقام, إذ إن الحكومة الفرنسية سبق أن مارست الكثير من الممارسات التي تتناقض مع مفهوم العدل, حيث استعمرت وبصورة استعبادية الكثير من الدول, خاصة في إفريقيا وفي آسيا حيث استعمرت الجزائر 130 سنة, المغرب, تونس, سورية, لبنان, وغيرها من دول القارة الإفريقية.
الملايين من أبناء المستعمرات الفرنسية السابقة قتلوا على أيدي الفرنسيين, ويكفي أن نعلم أن الجزائر قدمت أكثر من مليون شهيد هذا عدا التعذيب وتدمير الممتلكات ونهب الثروات, ولم يعد الأمر نقل عائلة من مكان إلى آخر, كما حدث لعائلة اليهودي الذي حكمت له المحكمة الفرنسية بالتعويض, كما أن فرنسا شاركت عام 1956 في العدوان الثلاثي على مصر بجانب بريطانيا وما يسمى إسرائيل. وفي الوقت الراهن نعرف أن الجندي الإسرائيلي المعتقل لدى الفلسطينيين يحمل الجنسية الفرنسية, وفي هذا عدوان على الشعب الفلسطيني, فأين العدالة الفرنسية من كل هذه الممارسات التي يتحقق فيها مفهوم القتل العمد وليس نقل الناس إلى المعسكر النازي؟ هل عوض هؤلاء عن هذه الجرائم؟ وهل عوضت الدول التي استعمرت عما لحق بها من إهانة وقتل لأبنائها واستباحة لثقافتها ونهب لثرواتها؟ أم أن التعويض والعدل لا يتحققان إلا لليهود؟! وهل يسمح القضاء الفرنسي أن يتقبل الدعاوى التي تقام على الحكومة الفرنسية؟
هذه التساؤلات وغيرها تداعت إلى نفسي وأنا أقرأ الخبر, وسواء قبل القضاء الفرنسي مثل هذه الدعاوى أم لا, فالواجب على الدول التي خضعت للاستعمار الفرنسي وكذا أبناء العائلات التي تضررت, أن يقيموا هذه الدعاوى ويقاضوا الجهات المسؤولة عنها سواء كانت الحكومة الفرنسية أو أي قطاع مسؤول عن أية ممارسة أضرت بفرد أو عائلة. وبغض النظر عن النتائج المترتبة على إقامة هذه الدعاوى سواء قبل القضاء الفرنسي النظر فيها أو رفض, وسواء حكم لصالح أصحابها أو ضدهم, فالأمر يتطلب متابعة الموضوع وعدم تركه أو نسيانه, والمثل يقول ما مات حق وراءه مطالب. وكرامة المسلم وحقوقه ودمه ليست أقل من غيره من الأجناس الأخرى التي تصر على إثارة ما يتعلق بها في كل مكان تعتقد أنه يمكن أن يحقق أو يسهم في تحقيق هذه الحقوق سواء في البلد المعني ومن خلال مؤسساته أو من خلال المنظمات الدولية.
ولا أدل على ما أقول حول أهمية متابعة الحقوق والمطالبة بها إلا الرفض المتكرر من قبل الحكومة الفرنسية الاعتراف بالأخطاء التي اقترفتها أثناء استعمارها الجزائر رغم إصرار الحكومة الجزائرية على هذا الطلب وربطها موضوع العلاقات بين البلدين بهذا الأمر. وإن دل هذا الرفض على شيء فإنما يدل على الغطرسة والتمادي في الظلم واعتبار أن تلك الحقبة المظلمة الشائنة حقبة تنمية وسعادة للجزائريين. ولا ننسى أن الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت فيه إدانة, وهذا ما تتجنبه تفادياً للمحاسبة وإن لم يكن في هذا الوقت فقد يأتي اليوم الذي تحاسب فيه هذه الدول على جرائمها التي اقترفتها في حق الشعوب الأخرى التي خضعت إلى سيطرتها واستبدادها.
هاهم اليهود يبحثون وينبشون في كل مكان ومن خلال أية طريقة بغرض إثبات ممارسة خاطئة ارتكبت في حقهم أو في حق واحد منهم في أي مكان من العالم, ومن قبل أي فرد أو أمة, وفي أي حقبة زمنية مهما كان قدمها, يبحثون عن دليل أو أدلة مادية أو غير مادية صحيحة أو واهية بغرض إثارة الموضوع وإدانة الفرد أو البلد ومن ثم الابتزاز. وهذا ما حدث لهذا الفرد في فرنسا التي ألزمت محكمتها سكة الحديد بدفع التعويض له, أو ما تقوم به دول أوروبية أخرى حيث تدفع تعويضات لإسرائيل مقابل اتهامات حول ممارسات ربما حدثت لليهود في ذلك البلد. الأمة العربية والإسلامية ديونها عند الآخرين كثيرة خاصة تلك الدول التي استعمرت واعتدت وحاربت, أو أولئك الأفراد الذين سرقوا تراثها وثرواتها الفكرية والثقافية, ولعل الشعبان الفلسطيني والعراقي يدونان ويحفظان كل صغيرة وكبيرة وأي دليل بشأن الجرائم التي ارتكبت بشأن هذين الشعبين سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
والأمر يستلزم بادئ ذي بدء توثيق هذه الحقوق والديون وجمع أدلتها وشهودها ومن ثم الشروع في المطالبة بها أو استعادتها أو التعويض عن الأضرار المترتبة عليها وفق منطلقات نظامية وعبر القنوات الرسمية والهيئات الدولية وعبر الإعلام والقنوات السياسية وجميع المحافل العلمية والثقافية. الأمر لا يحتمل النسيان أو التنازل عن هذه الحقوق مهما صغرت, لأن التنازل عنها يشجع الآخرين على مزيد من التمادي في الاعتداء على الأمة وحقوقها.
وتمثل الجهود الإعلامية والتربوية رافداً مهماً وأساسياً في إبراز هذه الحقوق وتأكيدها لجعلها جزءاً من الذاكرة الجماعية, التي يفترض أن تتناقلها الأجيال. ويمكن عمل الأفلام والمسرحيات, وكتابة القصص التي تحكي معاناة هذه الشعوب تحت الاستعمار وممارساته الاستعبادية, كما يجب وضع هذه الحقوق في المناهج والمقررات الدراسية لتدريسها للناشئة ومناقشتها بغرض تشكيل العقول بما يخدم استرجاع هذه الحقوق والتفكير في الآليات المناسبة لذلك.