رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


"أبو عبيد" وديكارت

[email protected]

لم يكن "أبو عبيد" يعرف الفيلسوف الفرنسي ديكارت ولا قرأ له حرفا واحدا ولم يسمع عنه، لكنه كان تلميذا، دون أن يدري، لمقولته الشهيرة: "أنا أفكر، إذاً أنا موجود".
كان "أبو عبيد" سيد المكان وزينة المجلس، إن حل فيه دارت نحوه الأعناق، كان شامخا بعفة، مرحا بورع، بشوشا بوداعة، له طلة كالعيد وهالة نورانية تفيض عنه إن حكى وتتدفق إن تبسم.
أما إن غنى فالريح تحبس أنفاسها عن الهبوب والأشجار تمسك أوراقها عن الحفيف، والطيور تؤجل تغريدها لتقلده، فيما يخضلّ دمع الحجر الصلد وتميس في صدور الرجال والنساء شهقات عشق معتقة سدت تصاريف المقادير دونها الدروب.
وحده غناء "أبو عبيد" يفلت الذكرى من عقالها فيوقف الرجال ناهضين على أقدامهم ساقطين من هاماتهم، يتهصرون رقصا في جوقة السامري، غاطسين في موج مده وجزره، فيما شجن صوت "أبو عبيد" ينتشلهم ثم يغمسهم فيه وهكذا دواليك، وهو يهطل معهم في مهب العشق صادحاً:
يا علي صحت بالصوت الرفيع
يا مـــرة لا تذبيـن القــناع
أما النساء فيتسورن حيطان السطوح يمصمصن من الأثير صدى صوته الخاثر من شقوق هدب الأثل وسعف النخيل، وفيهن أمه الضريرة ترهف السمع وتسبح في ملكوت صوته فترى ما رأت زرقاء اليمامة: شجرا يمشي. بينما تقف الصبايا خلف الأبواب ينتظرن مروره في أزقة الحارة ليفزن بنظرة أو نبرة من صوته كأنهن من عناهن الشاعر عمر بن أبي ربيعة في قوله:
وكنَّ إذا أبصرنني أو سمعن بي
يرقِّعن أفواه الكوى بالمحاجر
هكذا هو "أبو عبيد" .. لم يكن له إلا أصدقاء .. أو أن الصداقة نفسها منحازة إليه فأنت تشاهده ساعة يرى ملمح خير أو حق أو جمال، يغشاه مرح عفوي عارم، يزغرد في كل قسمات وجهه ويندلع بروقا في عينيه، كأنه أحد فلاسفة أثينا المغرمين بمثلث الخير والحق والجمال ممن لا يرون للحياة معنى دون هذا المثلث الشهير.. فهو كما تأسره ملاحة فلاحة عابرة، تثمله كذلك لثغة طفل رضيع، وهو إذ تصعد به الأهازيج والأغنيات الجميلة إلى الأوج، تذروه رياح النكتة أو الدعابة أو الطرفة، أو المشهد التمثيلي شظايا من قهقهات لها رنين لا يقاوم.
على أن هذا الإنسان الورع الفنان، في بساطته وروعته، ماشيا أو جالسا، جادا أو هازلا، مرحا أو ترحا، كان يخفي خلف ذلك كله نارا في رأسه، غير أن ولعه بالحياة وحبه للناس يجعلانه يزجر كل ما يعكر صفو الألفة ويوصد دونه الأبواب .. أقول هذا لأنه فاجأنا في الهزيع الأخير من عمره، أنه كان يحمل في داخله شيئا من ديكارت: (أنا أفكر، إذاً أنا موجود) بيد أنه لم يشأ، على ما يبدو، إزعاجنا بتأملاته التي فضحها كثرة ترديده هذا البيت الشهير لأبي العتاهية:
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
وكم كان يستدرك بسخرية بصيرة ويقول بعد إنشاده البيت: (أي قيمة لعودة الشباب؟ هل فقط .. لأخبره بما فعل المشيب؟!) ويضيف بما معناه: (ذلك سخف وأمنية تافهة)، وكانت تأخذه نوبة غضب فيهب واقفا، ينتفض كالطود وهو يضرب بعصاه الأرض ويتنهد: (آه .. ما هذا؟ بل لو جاء الشباب يوما لأمسكت به من تلابيبه, وليذهب المشيب للجحيم)، ولا يمكن أن يعني هذا الاحتجاج الحاد سوى أن "أبو عبيد" كان عميق الإحساس بوجوده في الوجود لأنه بموقفه الناقد ذاك، أثبت أن عقله كان يفكر خارج السياق وأنه لم يكن يجتر مستهلك القول ولم يستسلم للفهم السائد، إنه فعلا من قبيلة ديكارت ولكن على طريقته الخاصة.
بل إن هذا الموقف من "أبو عبيد" يكشف عن احتفائه اللا محدود بالحياة وحبه لها لا لغرض دنيوي وإنما لأن الحياة دون أن نعيشها حبا ونسعد الناس فيها هي موت عفن.. وهذا يفسر ما كنت أسمعه منه كثيرا حين بدت شمس عمره الغالي على شفا شفق الغروب فكم كان - رحمة الله عليه - يردد بيت الإمام علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه:
ذهب الشباب وما له من عودة
وأتى المشيب فأين منه المهربُ
وكان "أبو عبيد" يبالغ بترك قافية البيت (حرف الباء المضمومة) تسقط مدوية على شفتيه، (بووو ..) كمن يتلو آخر مزامير الوداع لعمر كان هو عطر الحارات وكحل العيون وملح الأصوات.
بل أكبر ظني أنه كان في ترديده هذا البيت يعبر عن تصالح نفسه مع هذا النزال بين شباب ذاهب ومشيب قادم ما منه مهرب، مستسلما بإيمان عميق لقضاء الله سبحانه وقدره وسنته في خلقه.. رحم الله "أبو عبيد" رحمة واسعة ورحم الله الجميع فقد رحل عنا منذ سنوات وترك فينا ذكراه سراجا وهاجا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي