بلدي ليس نفطاً فقط .. ولا ينبغي!
قد يعتقد القارئ الكريم من خلال قراءته عنوان مقال اليوم أنه موجه إلى الخارج أو القارئ غير السعودي، لا بل موجه إلى كل سعودي وإلى المسؤولين منهم بالدرجة الأولى الذين هم مواطنون أيضا قبل أن يكونوا مسؤولين في مختلف الأجهزة العامة والخاصة، لأنهم يمثلون لبنة من لبنات وطن، ونسيجا من أنسجة متعددة لهذا البلد الذي علينا جميعاً مسؤولية حمايته من الأخطار ودفعه إلى الأمام حتى يسابق الأمم في تحد لا مثيل له. وهنا لا أستغرب بل أتوقع أن تتهافت علينا الوفود الأجنبية كل يرد نصيبه من مشاريعنا الضخمة؟ وهم لا يهمهم إلا الدولار ولا أستغرب إن كان البعض منهم ينظرون إلينا على أننا البقرة الحلوب التي امتلأ ضرعها وحان حلبه كما حُلبنا في السابق!
نعم بلدي ليس نفطاً فقط! بل هو أكثر من ذلك بكثير ويجب أن يكون كذلك، كما يجب علينا أن نتصرف على أساس أن لدينا حضارة بدأت ملامحها بالتشكل، حيث يسعى ولاة الأمر لتحقيق ذلك هذا الهدف، لكن في الوقت نفسه هناك عقبات كثيرة تحول دون تحقيقه، ولا بد من التعاطي معها بشكل واضح وجلي حتى نستطيع القول إننا في الطريق لتحقيق الأحلام وهي مشروعة، فكما تحقق حلم الدولة وحلم التوحيد، أعتقد أن لدينا أحلام أوسع الآن في خلق حضارة وأمة كانت تحت الرماد ولكنها لم تنطفئ، وقد بدأت الإشارات الأولى لإشعال أنوارها من جديد.
ولكن هل يعي المسؤول صغرت أو كبرت مسؤوليته، والذي أُعطى المسؤولية هذه الحقيقة؟ هل يعي أن أي تقصير في عمله يعنى مزيدا من الحواجز في سبيل تحقيق الأهداف العليا للأمة؟ هل يعي المواطن أنه مسؤول هو أيضا؟ الملاحظ أن هناك تقصيرا في حمل الأمانة.
إن ما نشاهده على أرض الواقع يقول لنا إن بعض المسؤولين والمواطنين على حد سواء لم يعوا هذه الحقيقة بعد! والشواهد كما قلنا كثيرة ومتعددة وتتداخل في جزئيات صغيرة للغاية ولكنها مهما صغرت تظل مسؤولية وعلينا القيام بها لأنها تعكس لنا الصورة الكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر. وإلا كيف تفسر أن يرمي مواطن وبكل بساطة وجراءة من خلال نافذة سيارته علبة مشروب أو منديل وأمام أعين الجميع وبكل استخفاف بجميع متكسبات هذا الوطن: أين المسؤولية الذاتية؟ وأين المحاسبة؟ أتمنى أن أدخل في عقل هذا الكائن(!) كي أعرف كيف يفكر؟ وهو يعيش في مدينة تحاول أن تكون حضارية بما يؤكد أننا أمة في طريقها لخلق حضارة جديدة بدليل هذه السيارة التي يركبها ولم يصنعها!
ومن الشواهد أيضا التي تحتاج إلى تفسير وتأكيد للمسؤولية ما حدث في كلية اليمامة هذه الكلية التي تحاول الإسهام في إبراز وجه حضاري للمملكة. إن ما صاحب الفعاليات الثقافية لهذه الكلية الوليدة من محاولة فرض الأمر الواقع أمر يحتاج إلى قراءة متأنية. إن المتابع لما يُكتب على المنتديات باختلاف أنواعها من تحاش واضح وإلغاء متفق عليه للآخر يجعلنا نتوقع ما حدث في كلية اليمامة وما سيحدث في أماكن أخرى، إذا لم يتم العمل بشكل جاد وواضح ويتحمل الجميع المسؤولية كل في موقعة للحيلولة دون إرجاعنا إلى عهود مظلمة.
وشاهد آخر على ضياع المسؤولية طريقة تعاملنا غير اللائقة لشريحة واسعة منا مع المقيمين وبالذات العمالة المنزلية والسائقين، إننا بحاجة إلى تغيير هذه الثقافة، وأعني بذلك ثقافة التعامل مع المختلف عنا شكلاً ومضموناً، ولا بد بطبيعة الأمور أن يكون هناك من بيننا من يختلف عنا ومعنا ولا يمكن صهر الجميع بقناعات وفلسفات واحدة. واختلاف أمتي كما قال عليه الصلاة والسلام رحمة وليس كارثة كما يصورها البعض.
كما يمكن معرفة ضياع المسؤولية من خلال الاطلاع على ما يُكتب في الصحافة عموماً والاقتصادية خصوصاً بحكم التخصص، يستطيع أن يستنتج أن الأنا لدينا معظمة أكثر مما ينبغي، حيث تكال التهم هنا وهناك دون مسؤولية ودون تأكد. والصحافة عموماً هي مرآة للمجتمعات ولمستويات المسؤولية فيها أيضا. والكلمة مسؤولية عظيمة أمام الله وأمام المجتمع والنظام، على الأقل هكذا يفترض!
كذلك من تابع ويتابع ما حدث ويحدث منذ ثلاث سنوات لسوق الأسهم وذلك عندما انفتح السوق على مصراعيه للجميع دون تنظيم يذكر أو متابعة حقيقية لما يحدث، أو حتى قراءة لما ستؤول إليه نتائج هذا الاندفاع من قبل المسؤولين والمواطنين على حد سواء. كان لا بد أن نتوقع ما نعيشه هذه الأيام بكل أسف، والذي آمل أن تكون تبعاته في الحدود التي يمكن السيطرة عليها!
وكمشهد آخر على ضعف المسؤولية نجدها في الشأن الثقافي والنخبوية الزائدة لمثقفينا، فالمراقب لهذا المشهد يستطيع أن يعرف أن هناك أبراجا عاجية للبعض منهم لن نستطيع من خلالها تطوير ثقافتنا السعودية بالمعنى الحقيقي، لأن المثقف سرعان ما ينعزل عن محيطه ويبدأ يعيش ثقافة خاصة لا تعكس هموم مجتمعه، وعندما تأتي ثقافة الشارع كبديل تجدهم يتحدثون بفوقية زائدة ونسمع لهجة فيها كثير من الطبقية بكل أسف للإنتاج المتواضع حسب معاييرهم. يا مثقفينا الأعزاء عندما تنعزلون عن شارعكم الذي تسكنون فيه لا بد أن يأتي من يشغل هذا الفراغ، ولا يمكن أن يشخص المثقف مجتمعه من خلال صالونات تقع في أعلى الأبراج لا تستطيعون منها قراءة مجتمعكم: أين المسؤولية إذن؟
كل ما سبق مجرّد لمحات لشواهد منتقاة تؤكد ضرورة تفعيل المسؤولية الذاتية والمسؤولية الممنوحة بسلطة النظام. وبصراحة قد تكون فيها بعض القسوة، ولكن يجب علينا أن نعمل بكل الوسائل الممكنة كل في مجاله في سبيل تحقيق الأهداف التي من أجلها منحت تلك المسؤولية. ولدينا أمثله لبلدان تستورد النفط ولا تصدره ومع ذلك وبعزيمة من أخذوا بزمام المسؤولية، وهم جميع أفراد المجتمع، أصبحوا يحققون ناتجا قوميا يفوق الناتج المحلي لكل دول الخليج التي تسبح على بحر من النفط ولا نزال بعد مرور أكثر من نصف قرن على اكتشافه نعد دولا نامية. ونحن نعلم أن الدول التي يغيظها اعتمادها على نفطنا تعمل ليل نهار على أن يأتي اليوم الذي نشرب فيه هذا النفط كما قال كيسنجر في سبعينيات القرن الماضي، ونعود إلى الخيام وركوب الجمال، وكما يقول بعض المقيمين بيننا عندما يريدون التلميح بصفتنا وليس التصريحFrom C to C وهي تعني من الجمل إلى الكدلك.
آمل أن نتحرك بناء على قراءة صحيحة للمستقبل مبنية على دراسات اقتصادية واجتماعية وثقافية تقيس بشكل علمي الواقع والمأمول، وألا نترك الأمور لتأتي كما هي، إذا ارتفعت أسعار النفط صُرف ببذخ وبدون حساب، وأصبح المسؤولون فرحين بتلك الميزانيات الضخمة، لأنها تغطي على قصور أجهزتهم التي يعملون فيها، وإذا تراجعت تلك الأسعار تعطلت العجلة ولا بديل إلا الانتظار والشكوى من قصور ذات اليد. أين إبداع المسؤول؟ أين فكره؟ أين الإضافة؟ القيادة والنجاح تتحقق عندما تكون في أحلك الظروف وأصعبها وليس عندما تستطيع شراء كل شيء بالمادة.
إن ما حققه ولاءة الأمر من إنجاز حضاري لهذا البلد يجعلنا جميعاً أكثر حرصاً على المحافظة عليه وعلى مكتسبات الوطن. ولكن صدقوني أيها المسؤولون باختلاف مستويات المسؤولية أن التحديات أكثر وهي تتغير بشكل يفوق التصور، وهي لم تعد تحديات بالكم ولكنها تحديات الكيف والكم والإبداع. ويضاف إلى ذلك كله تحد يمس ثقافة مجتمعنا وطريقة تعاطينا لمختلف أمور حياتنا، وبالذات مع الانفتاح غير المسبوق من خلال وسائل الاتصالات بمختلف أنواعها.
وأخيرا فإن مناسبة هذا الحديث المشحون هو مشهد أحد الشباب يركب سيارة لم أركبها وقد لا أركبها في حياتي، يرمي وأنا أسير خلفه علبة أحد مشروبات الطاقة بعد أن تلذذ بشربها ولا أدري لماذا يريد هذه الطاقة؟ وأين سوف يصرفها؟ ولكن ليس هذا المهم، المشكلة كيف يرميها بهذا الشكل المهين؟ أين المسؤولية الذاتية؟ وأين المحاسبة؟ أم أن مَن أمن العقاب أساء الأدب! وهي مجرد مثال يأتي في ذيل قائمة طويلة من ضياع المسؤولية.