أيام "الشبكـة"

[email protected]

كنا فتيانا مبهورين بما يصل إلى أيدينا من المجلات اللبنانية: "الجمهور"، "الخواطر"، "الأسبوع العربي"، "الصياد" "الحوادث"، "المستقبل، و"الديار"، لكن كان أكثر ما يبهرنا ويزغلل عيوننا مجلة "الشبكة"، فقد كانت مهرجانا من صور الفنانات والفنانين، ومن أجساد مصقولة تلمع كالمرمر تحت دموع الكريستال أو شموس الشواطئ يكاد الجميع فيها، كما يقول عادل إمام "ناس لابسة من غير هدوم"!!
كان ما يهمنا في تلك المجلات أمران أساسيان.. البحلقة في هذه الكائنات الغريبة التي يسمونها نساء يصعب علينا معها التصديق بأنها يمكن أن تكون فعلا من جنس نسائنا وهي على ذلك النحو شاهرة تضاريس ساخنة دون خجل أو حياء، خصوصا ونحن أبناء ثقافة "واخزياه" ولم نعرف من الثياب إلا "الكرتة" و"المقطع"، و"الغدفة", و"الشيلة" للمرأة و"الثوب" و"الغترة" "الشماغ" للرجل، ولم نعرف الصور إلا باللون الأبيض والأسود، والبني أو الألوان الباهتة، أما الأمر الثاني الذي كنا نحرص عليه في المجلات اللبنانية فهو صفحات التعارف.. كنا نتبارى في انتقاء الأسماء من مختلف البلدان العربية والأجنبية وبالذات أولئك الذين هوايتهم جمع الطوابع وتبادلها، فقد كانت في أيامنا موضة نعتبر من لا يمشي في ركابها متخلفا أو في عرف أبنائنا اليوم "قرويا!!".
منحتنا تلك المجلات صداقات كثيرة أهدينا لها صورنا وكتبنا عليها كلنا تقريبا الكلمات نفسها: "أهدي إليك خيالي الصامت لكي يدق ناقوسا في عالم النسيان"، مع أننا، أو معظمنا لا يعرف كلمة "ناقوس" وحين نتلقى صورا لفتيان وفتيات نحرص على وضعها في ألبومات، وإن كان خبثاؤنا يبالغون في رص صور الفتيات ما أمكنهم ذلك.
لم تخل هواية تبادل الصور من طرائف كأن يلجأ أحدنا إلى إهداء صورة غيره وكأنها صورته، لأنه إما غير معجب بشكله، أو غير مكترث بالمرسل إليه، أو أنه لا يملك من النقود ما يكفيه للذهاب أكثر من مرة إلى ستوديو التصوير، ومثلما أهدت لنا مجلات لبنان أصدقاء وصديقات وصارت لدينا ألبومات صور نتسامر معها ونزهو بها.. أهدت إلينا من خلال التعارف أيضا أكواما من الطوابع، منها ما كان نادرا.. أضاعها بعضنا في غرور الشباب وفجر الرجولة أو تنازل عنها لأخيه الذي يصغره، فيما باعها البعض بمال يعتبر ثروة في حينه، وقليل من احتفظ بها عطرا للذكرى.
أعود إلى مجلة "الشبكة" إحدى فنتازيات آل فريحة في "دار الصياد" فقد كانت هذه المجلة آنذاك تشكل إصدارا جريئا غير مألوف، وتشكل حرجا لمن يكابرون من الكبار، فيشيحون عنها في الظاهر ويتلصصون عليها في الخفاء، بينما كانت للفتيان والفتيات نافذة لعالم ألف ليلة وليلة تترجم بالصور مباهج شهريار وشهرزاد، وتقدم وجوها وقامات ملونة لمقالات مجلة المرحوم صبري القباني "طبيبك"..
غير أن أحدا لم يهاجم "دار الصياد" آنذاك، ولم يرجم أصحابها بالرذيلة.. رغم أن "الشبكة" كانت تملأ بنسخها ساحة البرج وشارع الحمراء والأرصفة في بيروت وفي بعض الأقطار العربية.. ومن لم يرقهم بُهرج الفتنة فيها اكتفوا بمنع دخولها رسميا لكنها ظلت تتسرب من شقوق حواجز الجمارك، إلى أن جاءنا زمن صارت فيه بعض قنوات التلفزة ومواقع الإنترنت كابريهات فضائية تتنافس في تهييج الغرائز وعروض العري الفاحش والتي لم تعد معها صور "الشبكة" ومثيلاتها شيئا مذكورا.
ليس هذا دعاية للمجلات اللبنانية أو لمجلة "الشبكة" على وجه الخصوص بغرض الإشادة بهذه النوعية من الإصدار ولا دعوة مبطنة إليه أو لمثله، فقد جرى في النهر ماء كثير وتغيرت البلاد والعباد.. وصار ثمة فارق حاد وبون شاسع جدا بين ما كان وما يكون، فقد كانت الحياة الثقافية والاجتماعية للعرب وللأعراب تسير عفية عفوية على طريقة "كل واد ومجراه" أو على حد تعبير الشاعر محمود درويش:
لن يصب النيل في الفولغا
ولا الأردن في نهر الفرات
كل نهر وله مجرى، مصب، وحياة

أما اليوم، فقد بلغ الشطط حدا جعلنا لا نقف عند فرض الوصاية على مواقف وخيارات بعضنا البعض فقط، وإنما أصبح منا قوم يصرون على أن تمتثل البلدان التي فتحت أذرعها لهم حين ضاقت بهم بلدانهم لوصايتهم وأن يغير أهلها جلد ثقافتهم وينسلخوا عن هويتهم إكراما لطهارتهم المزعومة وإلا ... وبقية النعيق بات معروفا، فما أورثنا إلا هما وسقما، وسمعة لا ذنب لمعظم العرب والأعراب الطيبين في أنها أصبحت غير مبجلة، فالزمن العربي على ما يبدو يمشي القهقرى!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي