لماذا يكافأ العلماء بجزاء سنمار؟!
يقال إن سنمار كان مهندساً بارعاً فطلب منه أحد الملوك بناء قصر له ففعل ما طلب منه، وبعد أن فرغ من بناء ذلك قام الملك بقتله حتى لا يبني قصراً يماثل قصره أو يفوقه في الجمال، وذلك ربما بفعل الأنانية أو لضعف العقل وسوء التدبير، ومثل هذا الفعل يتكرر مع مبدعين وبارزين وعلماء سخروا أنفسهم وحياتهم وعقولهم الفذة بل وحرموا أنفسهم من المتع بغرض خدمة أوطانهم ومجتمعاتهم، وفي النهاية وجدوا أنفسهم يعاملون مثلما عامل الملك سنمار حيث كان جزاؤه إنهاء حياته.
يتعجب المرء عندما يسمع أو يقرأ خبراً حول سجن عالم أو مفكر أو مثقف وكثيرة هي الأخبار التي على هذه الشاكلة في كثير من أرجاء العالم، ففي الاتحاد السوفياتي سابقاً كانت مثل هذه الأخبار تأتي تباعاً وبصورة كبيرة، والسبب في ورود أخبار اعتقال العلماء والمثقفين وسجنهم يعود إلى الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية التي كان يهمها تشويه صورة الاتحاد السوفياتي وإظهاره بصورة المستبد الذي لا يقيم للعلم والعلماء وزناً، وفي أمريكا ذاتها تقع مثل هذه الممارسات، لكن مع أفراد من أصول غير أمريكية، حيث تم قبل مجموعة سنوات سجن الدكتور المهندس عبد القادر المصري الأصل والذي يعمل في مجال الصواريخ وتم سحب أمواله وسيارته ومنزله وتشريد عائلته وعومل معاملة سيئة نظراً لاتهامه بتسريب معلومات حول أسرار الصواريخ إلى مصر. وإذا كانت هذه الممارسات تحدث في مثل هذه البلدان فلا غرابة في ذلك، إذ إن الاتحاد السوفياتي يوصف بالاستبداد والدكتاتورية وأمريكا التي سجنت المهندس عبد القادر والدكتور العريان الأستاذ في إحدى الجامعات الأمريكية تتصرف بوحي من مصالحها البحتة التي لا تراعي القيم ولا تحسب لها حساباً البتة في مثل هذه الحالات.
والإسلام أعلى من شأن العلماء ورفع منزلتهم حيث يقول الله تعالى بشأنهم "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، ويقول المصطفى، صلى الله عليه وسلم "العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً بل ورثوا العلم"، ومع إدراكي أن الآية والحديث الشريف يخصان العلماء الشرعيين إلا أن العلماء في المجالات الأخرى شأنهم كبير وقيمتهم عظيمة في نمو وتطور مجتمعاتهم ما يكسبهم منزلة كبرى في المجتمعات التي تقدر العلماء وتهتم بهم، وما دعاني لتناول هذا الموضوع في هذا المقال ما حدث لعالم الذرة الباكستاني عبد القدير خان الذي أصبح مصيره السجن والمرض والتدهور الخطير في صحته بعد أن ضحى وخدم أمته خدمة جليلة حيث درس خارج البلاد ودبر الحيلة للهرب من هولندا إلى بلاده، حيث سافر مع بعثة إلى جنوب إفريقيا، ومن هناك استطاع التسلل إلى بلاده بمساعدة أمنيين باكستانيين. وبوجوده في باكستان استطاع أن يؤسس لعلم الذرة ويوجد حوله ثلة من الطلاب والمتخصصين حتى أطلق عليه أبو المشروع النووي الباكستاني، وبهذا الفعل استطاعت باكستان أن تمتلك السلاح النووي وتشكل قوة ردع تحميها بعد الله من التهديدات الخارجية.
وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وقيام الولايات المتحدة الأمريكية بحملتها التي استهدفت اجتثاث عناصر القوة في العالم الإسلامي ومن بينها العلماء بمختلف تخصصاتهم ومواقعهم، كان عبد القدير خان أحد ضحايا هذه الحملة حيث اتهم بتسريب ونقل أسرار نووية إلى بلدان أخرى، وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تجفيف عناصر القوة في العالم الإسلامي وهي في ذلك تخدم أهدافها الحاضرة والأهداف الاستراتيجية فما الهدف من انقياد بعض الدول الإسلامية ومنها باكستان وراء هذه الحملة، هل زهدت هذه الدول بعلمائها وأصبحوا يشكلون عبئاً ثقيلاً عليها، أم أن هذه الدول تتعرض لضغوط من أمريكا وما أمام هذه الدول إلا هؤلاء لتجعل منهم ضحية وكبش فداء تتقي بهم هذه الحملة المسعورة التي تقودها أمريكا؟!! العلماء بمختلف درجاتهم ومجالات التخصص التي يعملون فيها يمثلون صمام أمان في مجتمعاتهم مهما اختلفوا مع حكوماتهم، وهم بعد الله يمثلون مصدر القوة والتماسك واللحمة الاجتماعية، هم بما يقدمون من علم ومخترعات يسهمون في تنمية أوطانهم ومجتمعاتهم اقتصادياً وتقنياً ومعرفياً وثقافياً، وما التقدم الهائل الذي لا حدود له في الدول المتقدمة إلا نتيجة جهود العلماء وعطائهم حيث يقضون أعمارهم في معاملهم وفي المكتبات ومع الطلاب يبحثون، ويجربون، ويتحققون ويستقصون المسائل ويحررونها للوصول إلى أفضل النتائج وبما يخدم الأفراد والمجتمعات.
إن الخطأ في تقدير العلماء وإنزالهم المنزلة التي لا يستحقونها تحدث الأذى فيهم وفي طلابهم وفي العلم ذاته، إذ ليس من السهل الحصول على عالم فذ ومتمكن في مجاله، خاصة أن بعض العلوم أصبحت حكراً على بعض الدول ولم يعد من الممكن قبول طلاب من دول إسلامية في بعض التخصصات، وحتى لو قبل الطالب تتم مضايقته وتتبعه. العلماء بشر يخطئون كغيرهم وقد يقدرون الأمور خلاف ما يجب أن تكون، لكن هذا لا يبرر إطلاقاً اعتقالهم والزج بهم في السجون مهما كانت المبررات، العلماء يمثلون في المجتمعات المتحضرة رموز المجتمع وقادته الذين يسهمون في التغيير نحو الأفضل، إذ بعلمهم تحل كثير من المشكلات المادية ذات الطابع الهندسي وبعلمهم تعالج الأمراض بعد توفيق الله، وبعلمهم تحل المشكلات العالقة بين الناس وبحكمتهم تحلحل القضايا الاجتماعية وتزال العقبات، العلماء يمثلون منارات يهتدي بها الناس.
إن تفريغ المجتمعات الإسلامية من العلماء من خلال سجنهم والتضييق عليهم سيضطرهم إلى الرحيل والابتعاد عن بلدانهم والعمل في بلدان أخرى ما يعطي قوة لهذه البلدان وضعفاً للمجتمعات الإسلامية ما يحولها إلى مجتمعات معتمدة على الآخر في الاقتصاد وفي المجال العسكري ومن ثم التحول إلى رهينة تتحكم بها المجتمعات الأخرى كما تفعل الولايات المتحدة مع بعض الدول التي جعلت من نفسها جزءاً من المحور الأمريكي تفكر بطريقة أمريكية ولا تتحرك في أي اتجاه إلا بعد الحصول على الضوء الأخضر منها، كما أن سياسة مضايقة العلماء تحدث الفجوة بينهم وبين حكوماتهم مما يقسم المجتمعات ويفتتها ويجعلها غير قادرة على مواجهة المشكلات التي قد تتعرض لها. وبغرض تحفيز العلماء وتشجيعهم على المزيد من الجهد والبحث وإقراراً بمكانتهم وقيمتهم وتكريماً لهم أوجدت بعض الدول جوائز تمنح للبارزين في بعض المجالات، وفيها على سبيل المثال لا الحصر جائزة نوبل، وجائزة الملك فيصل، وجائزة الأمير سلطان لأبحاث المياه، وجائزة الأمير نايف لأبحاث ودراسات السنة النبوية الشريفة، كما يوجد في مصر جائزة الدولة والتي تمنح سنوياً للمتميزين في حقول المعرفة كافة. ومع أهمية هذا التوجه الذي يستهدف تشجيع العلماء وتقديرهم، إلا أن الأهم تجنب التصرفات التي قد تسيء لهم أو تضر بهم حتى لا نفقد هذه الكنوز القيمة التي بفقدانها، لا سمح الله، ينضب معين المعرفة وتتدهور المجتمعات.