التيسير في فتاوى الحج سعة كبيرة تؤيدها النصوص الشرعية
دعا عدد من العلماء والدعاة إلى مراعاة أحوال الحجاج من قبل المفتين بتيسير الفتوى دون إخلال شرعي بحجهم في ظل ثبوت التيسير في أحكام الشريعة عامة، وفي الحج بصفة خاصة، وأن دين الإسلام مبني على اليسر خصوصا وأن البعض منهم يجهل نسك الحج ويسعى إلى أداء الحج للمرة الأولى وليس هناك ما يبين لهم حجم الأخطاء التي يقعون فيها، وذهبوا إلى أن هناك سعة كبيرة في أمر تيسير الفتوى يؤيدها أقوال الكثير من العلماء في الأزمنة الماضية وتطرقوا إلى بعض النسك التي هي في حاجة للتيسير أكثر من غيرها وخاصة رمي الجمار التي بها رخص شرعية كثيرة .
وفي البداية أكد الدكتور حمزة بن حسين الفعر الشريف أستاذ الدراسات العليا في جامعة أم القرى في مكة، ثبوت التيسير في أحكام الشريعة عامة، وفي الحج بصفة خاصة وأن دين الإسلام مبني على اليسر، وساق من الأدلة في ذلك قوله تعالى (يرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وقال سبحانه أيضـا: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج). وقال النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) لبعض أصحابه: (يسروا ولا تعسروا، وبشـروا ولا تنفروا) وقال: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسـددوا وقاربوا). وقال أيضا: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).
وهذه الأدلة الكثيرة وغيرها تؤكد أن التيسير في الشريعة ليس رخصــة، بل هو الأصل، ولذلك كان من هدى النبي (صلى الله عليه وسلم) التزامه في حياته كلها، ولا يتـركه إلا إذا كان الأخذ به يؤدي إلى خلاف الشرع، جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما خيّر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما". وروى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقف على راحلته يوم النحر عند الجمرة، فطفق ناس يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله، إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل الرمي؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (فارم ولا حرج). قال: وطفق آخر يقول: إني لم أشعر أن النحـر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر؟ فيقول: (انحر ولا حرج). وقال: فما سمعته يُسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعضها وأشباهها إلا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (افعلوا، ولا حرج) وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه : أن سائلا سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك اليوم فقال: إني أفضت (طفت بالبيت) قبل أن أرمي؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ارم ولا حرج).إن بعضا من المســلمين يظنون أن الإثـقال على النفس والمشقة عليها قصدا مما يتقرب به إلى الله، وأنه يضاعف الأجر والثواب، وهذا فهم خاطئ، لأن الله سبحانه رفع عن عباده المشقة رحمة بهم وتحننا عليهم، وبيّن أن هذا هو دين إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).
من ناحيته دعا فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة طلبة العلم والدعاة إلى مراعاة حال الحاج المستفتي من جهل أو فقر أو خلافه، مبيناً سعة أقوال الفقهاء في بعض المحظورات التي تقع من الحاج، وقال ينبغي أن يكون للمفتي نوع من الرعاية لحال الحاج، فكثير من الحجاج جهلة وغرباء وفقراء وضعفاء وأحوالهم صعبة، وقد يقع الواحد منهم في عدة محظورات، فربما أتى إلى عالم فسأله أو فقيه أو طالب علم فربما أفتاه بأربعة دماء أو خمسة دماء دون مراعاة لحاله، مع أنك إذا تأملت وجدت أن في أقوال الفقهاء سعة كبيرة جداً فينبغي مراعاة حال الإنسان، ولهذا نقل عن عطاء حتى في مسألة من جامع زوجته، أنه قال: يهدي بدنة إن كان ذا ميسرة. فراعى حال الإنسان إن كان غنياً فلا يشق عليه، بل إن بعض الناس ربما سَعِد بإيجاب الفدية حتى يخرج من الشعور بالخطأ أو الذنب والحرج، وربما تكون هذه حجة الإسلام، وربما لا يحج غيرها، فأحب عليه، وربما لو قلت: ليس عليك إلا أن تتوب أو تستغفر. لقال: أنا أحب أن أقدم شيئاً.
ثم إننا نقول أيضاً: إن الصدقة مشروعة بكل حال، وتزاد فضيلتها حال الإحرام، زد على ذلك أن من المعروف أن هناك أعمالاً من المحظورات جاء فيها ذكر الصدقة، وجاء فيها ذكر الفدية فإلحاق غيرها بها ليس أمراً غريباً أو منكراً، لكن ينبغي رعاية حال الحاج، فإن وجد العالمُ الحاجّ غنياً أو وجده راغباً في ذلك حثه عليه وشجعه، وإن وجد أموره بخلاف ذلك أو كان فعله بسبب جهالة أو بسبب إكراه أو بسبب ضرورة أو ما أشبه ذلك من نسيان أو غيره فليس عليه في هذا شيء –إن شاء الله تعالى-.
وهذا نوع من التوسعة فلو جاءك إنسان، وقال: أنا قصصت ظفري، ما تقول: عليك شاة، أو قص ظفراً أو ظفرين، وإنما تقول: تب واستغفر ولا تعد، لأن المسألة أصلاً لا تخلو من خلاف، وأصل موضوع الفدية –أيضاً- فيه شيء من الغموض في وجه إيجابه ودليله، فمسألة قص الأظفار ليس فيها نص، وليس فيها إجماع، بل إن ابن حزم لا يراها من المحظورات، والإمام أحمد له في ذلك رواية.
الدكتور عطية السيد فياض أستاذ الفقه المقارن المشارك ـ كلية الشريعة وأصول الدين في جامعة الملك خالد في أبها، اكتفى بسرد عدد من الأحكام يمكن الأخذ بها في التيسير في الفتوى على الحجاج أجملها لنا في النقاط التالية:
أولاً: سعة الفقه الإسلامي ورحابته ومرونته وكفايته في تقديم جميع الحلول الشرعية المعتبرة للتغلب على مشكلات الأمة في أداء العبادات وخاصة مناسك الحج .
ثانيا: رعاية المصالح ودرء المفاسد من مقاصد الشريعة المعتبرة، وتتفاوت الأعمال من حيث طلبها بحسب تحقيقها لذلك .
ثالثا: في رمي الجمار رخص شرعية كثيرة، يؤدي العمل بها عند الحاجة إليها إلى التغلب على كثير من مشكلات الرمي المتكررة .
رابعا: العمل برخص رمي الجمار قد يكون واجبا إذا كان فيه دفع هلاك محقق أو متوقع للنفس أو إتلافها، أو رفع حرج ومشقة لا تحتمل، كما يكون مندوبا إذا كانت أقل من ذلك.
خامسا: إن اتباع رخص المذاهب في رمي الجمار بقصد التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم مطلب شرعي معتبر، لا حرج فيه شرعا بالضوابط المذكورة.
سادسا: ليس هناك ما يدل على جواز إلزام الناس في مسائل العبادات التي لا يؤدي تركهم فيها إلى فوضى واضطراب، بل الأصل تركهم وما يرونه صوابا.
سابعا: جواز ترك الراجح واتباع المرجوح المعتبر في رمي الجمار وغيره إذا كان في ذلك تحقيق للمصالح ودفع للمفاسد.
وأوضح الدكتور الفعر أن من القضايا التي ينبغي إشاعة أمر التيسير فيها ما يلي:
1. البقاء في السكن في مكة أو غيرها إلى اليوم التاسع (يوم عرفة)، وعدم الذهاب إلى منى لمن يخشى من الازدحام أو التأخر وعدم تيسر وجود مكان، لأنه ليس شرطا في النسك، ولا ركنا ولا واجبا، ويمكن أن يذهب الحجاج مباشــرة إلى عرفة صباح الثامن أو في المساء، ويمكن تأخير الذهاب إلى عرفة إلى ما بعد الظهر يوم التاسع، وإذا ما وضح هذا الأمر للحجاج بشكل كاف فإنه يتـوقع أن يخف الازدحام في يوم التروية في منى وفي الطريق إليها، ولن يفوت الحاج الذي لم يذهب إلى منى بذلك شيئا من أنساك الحج المطلوبة.
2. الوقوف بعرفة وهو الركن الأعظم من أركان الحج، لأن من فاته الوقوف بها فاته الحج، ولكن هناك بعض الآراء الاجتهادية في مسألة الوقوف إلى غروب الشمس، فينبغي أن يبين للناس فعل النبي صلى الله عليه وسلم و لا تثريب على من أخذ برأي عالم معتبر في وقت الانصراف منها، إضافة إلى أنه لا بد من تعريف الحجاج بكل الوسائل الممكنة بأن الانصراف من عرفة لا يلزم أن يكــون بعد الغروب مباشرة، بل لو بقي الإنسان في عرفة إلى نصف الليل أو إلى ما بعده فإنه لا يلزمه شيء، وحجه صحيح بإجماع العلماء، وهذا مما يخفف من شدة الازدحام في الانصراف في وقت واحد، ويساعد على تفويج الحجاج في أوقات الليل المتعاقبة.
3. ومثل هذا أيضا في المبيت بمزدلفة والآراء الاجتهادية المعــروفة في هذا، فإن المتعين ذكر فعل النبي عليه السلام وإذنه للضعفاء وأصحاب الأعذار في الانصراف قبل الفجر، مع بيان أن الأعذار الآن اتسعت دائرتها بسبب كثرة الأعداد، وازدحام الطرقات، ومرافقة النساء والصبيان والعجزة، وفوات الرفقة.
4. ومما يمكن أن يكون من أسباب التيسير التي تخفف من الازدحام بعد الانصراف من مزدلفة أن الحاج لا يلزمه الرمي أولا بعد الانصــراف من مزدلفة، بل يمكن أن يذهب الحاج بعد مزدلفة إلى مكة مباشرة فيطوف ويسعى ويتحلل بالحلق أو التقصير ويؤخر الرمي إلى ما بعد ذلك؛ فقـد ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما المتقدم في روايــة عند الإمام مسلم: أن رجلا سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو واقف عند الجمرة يوم العيد، فقال: يا رسول الله، أفضت قبل أن أرمي الجمرة؟ قال: (ارم، ولا حرج).
5-ومثل هذا أيضا في قضية المبيت في منى، وفي رمي الجمار فإنه لا بـــد من توعية الحجاج أن الافتراش بهذه الطريقة وبالذات عند جسر الجمرات أمر فيه مخالفة شرعية، لأن المفترش يضيق على إخوانه ويتسبب في مضرتهم، كمـا أنه يتسبب في مضرة نفسه بإهانتها أولا، ثم تعريض نفسه للقاذورات والأمراض والأوبئة، وإذا لم يجد إلا هذا المكان فإن المبيت يسقط عنه شرعا.
6-الدعوة إلى الأخذ بالتيسيرات المعروفة في قضية الرمي ليلا، أو جمع الرمي كله في آخر يوم مما ينبغي التأكيد عليه، ودعوة الناس المحتاجين إلى الأخذ به حتى تخف حدة الازدحام بتوزيع الأعداد الكبيرة من الحجاج على فترات متعددة ممتـدة من ابتداء وقت الرمي إلى طلوع الفجر من اليوم التالي، وهذا مما يحصل به تيسير كبير على الناس، وبخاصة الضعفاء والعجزة ومن في حكمهم.