رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


المنفعة الحدية لهم وللوطن

يعرف كل مَن له ولو قليلا من الثقافة ماذا تعني عبارة "المنفعة الحدية" التي تتلخص في أن للاحتياج الإنساني حدا معينا يصبح ما بعده زائدا سواء كان قوتا أو شرابا أو لباسا، أو مسكنا وما إلى ذلك.
بيد أن طبائع البشر ونزوعهم نحو التملك والاستحواذ على ما يقدرون عليه يشيران إلى أنهم لا يحفلون بـ "المنفعة الحدية" وليس لديهم عمليا سقف محدد لها وإن صحت نظريا وبيولوجيا، لذا يتنافسون، يتسابقون، يلهثون وتتعقد بينهم أواصر المعاش المشترك في البلد الواحد ويتمايزون إلى ثري طائل الثراء وإلى فقير مدقع، وقد تنشأ بينهم نزاعات ومشكلات تتولى بعضها المحاكم وبعضها قد يتفاقم ويكسر البلد على رؤوس من فيه في حروب قبلية أو أهلية، أو قد يصل سقف "المنفعة الحدية" عند أمة أو شعب أو بلد حدا يجعله يستفز من حوله من الشعوب أو البلدان، وقد يدفع به إلى الغزو والاستعمار لغيره من الأمم.. وهي مسيرة سجلها طويل، سحيق، وغائر في أعماق التاريخ منذ البدايات الأولى للتجمعات البشرية وما زالت تفعل الفعل ذاته تحت ذرائع وأسماء وأعلام ودعاوى ومعتقدات مختلفة.
ما يهمنا هنا هو النظر إلى سقف "المنفعة الحدية "الفردية منظورا إليها بـ "المنفعة الحدية" الوطنية، فلقد أتاح الاقتصاد الحديث، خصوصا الصناعي ثم اقتصاد المعرفة وما بعد المعرفة، إمكانية أن يرتفع سقف المنفعة الحدية لدى فرد أو شركة، بما يفوق أو يوازي دخل بلد عملاق، أو حتى مجموعة دخول دول جيدة الدخل، ولنا في الملياردير بيل جيتس وشركته مايكروسوفت مثالا ناصعا لا يغرب عن بال أحد، فقد جعل هذا الرجل من سقف منفعته الحدية غير المحدود علوا.. ثروة وطنية عامة من ناحية، وثروة إنسانية صانعة للتقدم والرخاء في بلدان أخرى من ناحية ثانية، إضافة إلى توجيه قسط كبير من حجم أموال شركته للأعمال الخيرية كعلاج الأمراض المستعصية وما إلى ذلك.
نحن، في المنطقة العربية، وفي بلادنا المباركة (السعودية) خاصة، لدينا سقوف شخصية للمنفعة الحدية، لعديد من أهل القطاع الخاص، غير أن أصحاب هذه السقوف، أو لنقل عديد منهم يبدو أنهم مفتولون فقط برفع سقف المنفعة الحدية لمئات أو آلاف الملايين من الريالات التي تظل تهرول في المصارف تتضخم رقميا، بينما لا نجد لها انعكاسا يتناسب مع ما هو مفترض في أن تكون عليه في أرض الواقع، فلا أنت واجد غير مسميات لشركات ومؤسسات معظم مجال عملها في الأنشطة سريعة الربح قليلة التكلفة فيزيقيا وبشريا، سريعة التبخر والانكماش بمزاج أصحابها لأنها لم تترسخ أصولا ومحتوى.
هكذا تبدو سقوف المنفعة الحدية لأولئك وكأنها في مباراة أنانية بحتة لمنافسة الوطن نفسه في سقف منفعته الحدية، وبدلا عن أن تكون ثروات أهل القطاع الخاص قيمة نوعية مضافة لاقتصاد الوطن وتعميق دور هذا الاقتصاد وترسيخ مساراته المستقبلية، لا ترى ولا تسمع إلا سجالا مؤسيا عن "دلع" أهل القطاع الخاص يكاد يكون إصرارا على أن تقدم لهم الدولة ما يشتهون على موائد براقة أطباقها وملاعقها من ذهب، متناسين، ومتغافلين عن أن معظمهم ولدوا وتربوا وترعرعوا في حضن موارد هذا الوطن الذي فتح لهم كنوز البناء والتشييد والتشغيل والصيانة، وأسند إليهم ما لم يحلموا به من المهام وأعانهم على أنفسهم سنين طوالا حتى صار لهم لمعان ورنين، ولم يطالبهم كنظرائهم في دول العالم بالضرائب العالية التي لا شك أنهم يعرفونها حق المعرفة، علما أن أهل القطاع الخاص هناك طلعوا حقا من كدحهم الذاتي، سلخوا أعمارهم وقبلهم أعمار آبائهم وأجدادهم حتى صاروا شركات ومؤسسات هي في الواقع من لها فضل بناء دولها أكثر مما لدولهم الفضل في بنائهم.
فبأي وجه يقابل به أهل القطاع الخاص السعودي هذه الحقيقة؟ وإلى متى يبقى هذا "الدلع" سمة قطاعنا الخاص؟ وبأي حق يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، إذا دعوا إلى الاستثمار في بلدهم بما لا يروق لهم أو أهيب بهم لإعادة أموالهم المهاجرة؟ وكيف يتأتى لهم التلويح بالرحيل بأنشطتهم إلى الخارج لمجرد جسارة وطنية غيورة للسعودة تمارسها وزارة العمل من أجل وقف نزيف العمالة الأجنبية إلى بلادنا ووقف نزيف أموالها من بلادنا، أو لمجرد أن الهيئة العامة للاستثمار، أو وزارة الصناعة والتجارة، أو غيرهما من الجهات لها شروطها ولوائحها التي لا تعجب حضراتهم!!
ليس بوسع الوطن أن يتحمل عقوق أبنائه أو جحودهم ... وهذا الإصرار من قبل بعض أهل القطاع الخاص على ضرورة أن يكون "سقف المنفعة الحدية" الخاص بهم أعلى من سقف "المنفعة الحدية" للوطن، وأولى منه هو في الواقع خلل معيب في القيم وإساءة لا تحتمل لشرف الانتماء إلى هذا الوطن العظيم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي