المضاربون بين الثقة الزائدة والندم

[email protected]

لماذا يقدم شخص ما على الاستثمار في الأسهم؟ ما الذي يجعل المستثمر يبيع الأسهم الرابحة سريعاً ويتمسك بالأسهم الخاسرة؟ وما الذي يجعل شخصا ما يعتقد بأن بإمكانه تحقيق عوائد أكثر من غيره مع أن هناك في داخل السوق من يسبقونه خبرة ومعرفة ودراية؟ ما الذي يجعل أسواق الأسهم جذابة لكل الفئات وقرار الاستثمار فيها سهلاً نوعاً ما بعكس الاستثمار في مشروع عقاري مثلاً؟ هذه التساؤلات وغيرها شغلت أرباب التمويل والاقتصاد في محاولة لتفسير المبرر الذي يجعل من شخص ما يعتقد أنه قادر على تحقيق معدل مساو أو أعلى من عوائد السوق. المنطق يقول إن الشخص يحسب احتمالات الربح والخسارة فإذا كان احتمال الربح أكثر فسوف يقدم على الاستثمار, ولكن السؤال هنا ما الذي يجعل شخصا ما يعتقد أن احتمالات الربح أكثر؟
يعرف السوق الكفء Efficient Market أنه السوق الذي يعكس جميع المعلومات المتوافرة في السوق. لذا تصنف الأسواق حسب درجة المعلومات التي تعكسها. فإذا كان السوق يعكس المعلومات السابقة فقط فيصنف إلى سوق ضعيف الكفاءة Weak Form Efficient وفي هذا السوق يمكن تحقيق أعلى من معدل الأرباح في السوق باستخدام التحليل الفني. الدرجة الثانية هي السوق شبه القوي Semi Strong Efficient ويعكس المعلومات التاريخية والعامة مما يعني أن المستثمر لا يمكنه تحقيق أعلى من عوائد السوق إلا من خلال المعلومات الداخلية للشركة. الدرجة الثالثة هي السوق الأقوى كفاءة Strong Efficient Market وهو السوق الذي يعكس المعلومات التاريخية والعامة والخاصة، وفي هذا السوق لا يمكن تحقيق عوائد أكثر من عوائد السوق لا باستخدام التحليل الفني أو باستخدام المعلومات الداخلية والنتيجة المترتبة عليه هو انهيار السوق لعدم إمكانية تحقيق عوائد في هذا السوق وهو موجود فقط في جنبات نظرية الاستثمار فقط. معظم الأسواق العالمية تندرج تحت أحد النوعين الآخرين الضعيف وشبه القوي. وبالنسبة للأسواق الخليجية فمعظمها يندرج تحت تصنيف السوق ضعيف الكفاءة مما يعني إمكانية تحقيق أرباح من خلال التحليل الفني أو من خلال الحصول على معلومات داخلية عن أداء الشركات. السؤال الذي عجزت عن الإجابة عنه النظرية التقليدية في الاستثمار هو لماذا يقدم الناس على الاستثمار في سوق كفء, ولماذا يعتقد المستثمر الجديد أنه سيحقق أرباحا أفضل من غيره كصناديق الاستثمار مثلاً؟ هذا السؤال ظلت النظرية التقليدية عاجزة عن الإجابة عنه حتى أتت النظرية السلوكية في الاستثمار وطرحت إجابة أكثر منطقية من خلال تحليل سلوك المستثمر.
أحد الباحثين أجرى دراسة على عدد من الأشخاص طالباً منهم تقييم مستوى القيادة لديهم، الجميع تقريباً قيموا مستوى مهارة القيادة لديهم على أنها أعلى من المتوسط. باحث آخر أجرى استفتاء عن توقعات مستوى "الداو جونز" في عام 1998 في حالة إعادة تعريفه ليعكس التوزيعات المعاد استثمارها من بدايته في عام 1896 عندما كان مستواه 40 نقطة، آخذاً في الاعتبار أنه بلغ في نهاية 1998 بطريقة الحساب الحالية للمؤشر 9181. كما طلب من الأشخاص - عند كتابة توقعاتهم - كتابة أقل وأكثر قيمة متوقعة للمؤشر التي يتوقع الشخص بنسبة 90 في المائة أن المؤشر سيقع بينهما. الجواب لهذا السؤال أن المؤشر سيبلغ 652230 نقطة في حالة إضافة التوزيعات المعاد استثمارها لحسابه. وقد وجد الباحث أن لا أحد ممن تم استفتاؤهم استطاع توقع حتى قيمة أقل وأعلى - مدى معين – لتقع بينهما القيمة المتوقعة للمؤشر. لكن ماذا يعني ذلك؟ لماذا أغلب الناس يقيمون مستوى قيادتهم على أنها أعلى من المتوسط؟ ولماذا يضعون مستويات توقعات ضيقة جداً؟ الجواب للسؤال الأول أن الناس بطبيعتهم يتصفون بالثقة الزائدة Overconfident بمعنى أنهم يعتقدون دائماً أنهم يستطيعون تحقيق إنجاز في مجال معين بمعدل أعلى من المتوسط. أما جواب السؤال الثاني فهو أن الناس وفي محاولة لتجنب الندم Regret يضعون مدى ضيقا لتوقعاتهم فيضعون قيمة منخفضة للحدود العليا لتوقعاتهم وقيمة مرتفعة للحدود الدنيا وذلك يجعلهم يتفاجأون بشكل متكرر عندما تأتي القيمة الحقيقية مخالفة لتوقعاتهم. وهذا يتكرر بشكل كثير في الاستثمار في الأسهم, فالأشخاص - وبسبب الثقة الزائدة لديهم - يتوقعون أنهم قادرون على تحقيق معدل أعلى للعوائد من السوق مما يجعل الكثير من المستثمرين الصغار يلجون في السوق ويشكلون ما يسمى Noise Traders الذين يؤدون إلى زيادة حجم عمليات التداول بشكل كبير ومن ثم تذبذب السوق بشكل غير عادي. كما أن المدى الضيق للتوقعات - الذي أشرت إليه في المثال السابق - التي يضعها المستثمرون يؤدي إلى تعميق الخسائر أو تفويت فرص الربح أملاً في تجنب الندم مما يؤدي إلى تذبذب المؤشر بشكل كبير. بمعنى أن المستثمرين يضعون قيمة مرتفعة للحدود الدنيا لسعر السهم مما يجعلهم يتمسكون بالأسهم الخاسرة أملاً في ارتفاعها (تجنب الندم في حالة عاودت الارتفاع بعد بيعها بخسارة) بسبب أن توقعاتهم للحدود الدنيا لسعر السهم مرتفعة نسبياً ويضعون قيمة منخفضة للحدود العليا لسعر السهم مما يجعلهم يبيعون الأسهم الرابحة بشكل سريع، حيث لا يتوقعون أن تصل إلى أعلى من ذلك السعر (تجنب الندم في حالة انخفضت عن السعر الذي وصلت إليه وهو أعلى من القيمة العليا المتوقعة). هذا يؤدي بشكل أو بآخر إلى تداول مكثف في حالة النزول للتخلص من الأسهم الرابحة لانخفاض مستوى الحدود العليا المتوقعة لها وتمسك بالأسهم الخاسرة, لأن الحدود الدنيا المتوقعة لها مرتفعة نوعاً ما. كل هذا يحدث بسبب أن الإنسان بطبيعته يتمتع بالثقة الزائدة في قدراته, كما أنه يحاول تجنب الندم وهذا عامل مهم يجعل الإنسان يبحر في عوالم الخطر لتحقيق الإنجاز ووصول الأهداف, كما أنه يضع حدوداً معقولة لهذا الخطر لتجنب الندم في حالة انعكاس النتائج، ولكن الوعي بهذه الخاصية التي تلعب دوراً كبيراً في طريقة تشكيل القرارات الاستثمارية أمر مهم يساعد على تجنب بعض القرارات غير المدروسة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي