المناهج الدراسية ومعركة بقاء الأمم (3 من 3)

[email protected]

بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) كانت المشاعر ملتهبة والعقول مغلقة, خاصة عقول الساسة الأمريكيين الذين أرادوا أن يبرروا فشل أجهزتهم الأمنية, أو استثمار المناسبة بما يحقق مكاسب مادية ضخمة لهم, فكان أن صبوا جام غضبهم على المناهج في العالم العربي والإسلامي وبالتحديد المناهج الدراسية في المملكة العربية السعودية, وأصبحت مناهج المملكة موضوعاً دسماً يتحدث فيه القريب, والبعيد, والمتخصص, وغير المتخصص, والعدو والصديق, ويتناوله المفكر, والسياسي, والإعلامي, بل حتى الجاهل, وركب الموجة البعض من أبناء الوطن الذين وجدوا في مثل هذه الإثارة حول المناهج الدراسية شيئاً مما يحوك في نفوسهم أو يهيئ لهم فرصة الظهور على المسرح الإعلامي.
ومع تخلي أو ربما عجز بعض الأجهزة الكبيرة في البلد عن التعامل مع الموضوع بصورة موضوعية وعقلانية, التي يفترض فيها التعامل مع موضوع ضخم وشائك كهذا, وفي وضع كهذا يكثر فيه الضجيج, وتلتبس فيه الأمور وتتداخل, رأينا نحن في كلية التربية أهمية المبادرة والقيام بجهد علمي أساسه العقل ومنهجه الموضوعية ولا يتأثر بالمشاعر والعواطف، رغم أن الظروف في تلك الفترة تذكيها وتلهبها. وتبلورت فكرة عقد ندوة علمية تدرس مناهج متعددة في عدة دول, وقد خطط لذلك وعقدت ندوة بناء المناهج الأسس والمنطلقات خلال الفترة 19 ـ 20/3/1424هـ التي تم الإشارة إليها في المقال السابق، وقد استهدفت هذه الندوة الوقوف على الأسس الفلسفية والثقافية والفكرية التي تقوم عليها المناهج. وتم دراسة وتحليل 43 منهجاً دراسياً لخمس عشرة دولة موزعة على قارات متعددة والدول التي تم دراسة بعض مناهجها الإنسانية هي المملكة, الأردن, جنوب إفريقيا, أستراليا, سنغافورة, الفلبين, باكستان, المغرب, فرنسا, المملكة المتحدة, روسيا, كندا, أمريكا, وما يسمى إسرائيل, والإمارات. وقد تم إحضار المناهج الدراسية لهذه الدول بلغاتها الأصلية حتى لا يكون هناك مجال للشك في تأثير الترجمة, كما استخدم منهج تحليل المحتوى الذي يناسب مثل هذا النوع من الدراسات. ونظراً لضخامة بحوث الندوة، حيث طبعت في مجلدين كبيرين بلغت صفحاتهما 1548 صفحة, لذا فلا مجال للعرض التفصيلي, لكن الأمر يستوجب إيراد أهم ما توصلت إليه الندوة من استنتاجات وتوصيات كي يستفيد منها من ألزموا أنفسهم بالكتابة حول المناهج ولم يكلفوا أنفسهم الرجوع للمصادر المتخصصة، ومنها بحوث هذه الندوة التي جاءت لتكشف ماذا يدرس في مدارس الآخرين وكيف يفكرون وكيف ينظرون للآخر. وسأنقل دون تدخل مني ما انتهت إليه الندوة بغرض إطلاع القراء على نتائج جهد علمي موضوعي غير متوتر ولا يتأثر بالمشاعر والعواطف, وذلك على النحو التالي:
1ـ لوحظ من خلال تحليل الكتب المدرسية في الدول المختلفة وفي المقررات المتنوعة أن هناك بعض الاتجاهات العامة السائدة في تلك الكتب، ومن هذه الاتجاهات الاتفاق على أن أي مجتمع يقدم مناهجه في ضوء الأسس العقدية والفلسفية والاجتماعية لهذا المجتمع.
2ـ يوجد بين شعوب العالم إرث مشترك من الثقافة والقيم العامة, يستشف من بين سطور المناهج المدرسية التي تحمل إلى جانب علومها المحضة قدراً من القيم والثقافة العامة.
3ـ لكل شعب أساليبه الخاصة في التعبير عن إرثه الثقافي والحضاري والقيمي, والاحتفاء به في المواسم والأعياد والإبقاء على جذوته حية عبر المناهج المدرسية بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
4ـ تبين البحوث وأوراق العمل محورية الدين كمرتكز أصيل, تنهل منه الثقافة, وتنسدل في لحمته القيم الكامنة في النصوص الثقافية والمنهجية والتعليمية, ما يجعله جذوة يفسر في ضوئها معظم الأسس والمنطلقات.
5ـ أهداف الشعوب عبر مناهجها التعليمية, تسير في خطوط متوازية كي تخدم ثوابت العلم المتشابهة, وتتقاطع أحياناً لتعزز خصوصية الثقافات المتغايرة.
6ـ تبين أن القيم التي يبثها الإسلام لا تتعارض مع معظم ما ورد في النصوص التي تم تحليلها في المناهج والمقررات الدراسية, مع بعض الاختلاف في الأطر الهيكلية لعموم الثقافات.
7ـ اهتمت بعض البحوث وأوراق العمل بإبراز دور اللغة في تنمية الوازع الديني لدى الطلاب من خلال القطع الأدبية والقصص والقصائد الشعرية وغيرها.
8ـ تبين من البحوث وأوراق العمل أن القيم المستمدة من الثقافات والأديان الواردة في المناهج تعنى بتنظيم حياة الناس في مجتمع معين في ضوء خصوصياته، أما العلاقات بين الشعوب فيمكن بلورتها بواسطة الهيئات والمنظمات لما فيه خير البلدان منفردة ومجتمعة.
9ـ أوضحت الدراسات أن محو الثقافات والفلسفات الضاربة في الجذور أو التفكير في تعديلها وتذويبها في ثقافة واحدة لا يخدم التفاهم والتعاون بين الشعوب, الذي يمكن أن يتم من خلال التباين والتنوع ليكمل بعضها بعضا, بدلا من القسرية لصب الشعوب في أنماط متشابهة, ووضعها في قوالب جامدة, مع التأكيد على استحالة حدوث شيء من هذا.
10ـ كشف تحليل الكتب المدرسية التي تدرس في المجتمعات الغربية عن الحضور الطاغي للأفكار والرموز الدينية والحضارية للثقافة الغربية, وانعكس ذلك على محتويات الكتب التي توافقت مع الأسس العقدية والفلسفية والاجتماعية لتلك المجتمعات.
11ـ ظهر في ثنايا محتوى بعض الكتب المدرسية والصور غير المباشرة التي تضمنتها هذه الكتب لبعض الدول الغربية والكيان الإسرائيلي أنها تقع فيما تتهم به المجتمعات الإسلامية من تمجيد الأنا مقابل الآخر وتنمية الشعور بالاستعلاء وإبراز ثقافة الحرب على حساب مفاهيم السلام.
12ـ أظهرت نتائج البحوث والدراسات احتواء بعض الكتب المدرسية على عدد من القيم السياسية والاجتماعية والثقافية، واتسم بعضها بالانحياز وعدم الحياد في عرضه المعلومات, وكذلك بالإهمال والتشويه والتحريف لكثير منها.
13ـ اتضح من تحليل بعض الكتب المدرسية فيما يسمى بالكيان الإسرائيلي اهتمامها بثقافة العنف وإبراز سمو العرق اليهودي.
14ـ المدارس الدينية في الكيان الإسرائيلي ـ التي تحظى بدعم حكومة الكيان ـ تقوم سياستها التعليمية ومناهجها الدراسية بغرس الكراهية والعداء للآخر وبخاصة العرب واعتبارهم أغيار. كما تكرس سمو العنصر اليهودي على غيره من الشعوب, وتؤكد ضرورة وجود علاقة قوية بين طلاب المدارس والجيش.
15ـ لوحظ من خلال تحليل الكتب المدرسية للكيان الإسرائيلي أن هذا الكيان حرص على التمييز الثقافي والتعليمي وحرص أيضاً على إحياء اللغة العبرية بعد أن أهملت لسنوات طويلة، حين جعلها لغة التعليم في جميع المراحل الدراسية.
16ـ لوحظ في بعض الكتب الدراسية التي تم تحليلها اهتمامها بالجوانب الفنية كالرسوم والصور والإخراج, واعتمادها على نظريات تعليمية حديثة في القراءة والدراسات الاجتماعية وغيرها.
17ـ لوحظ في بعض الكتب الدراسية التي تم تحليلها اعتمادها أسلوب المحاورة والمناقشة في عرض الحقائق والمعارف, والاهتمام بدور الطالب في العملية التعليمية.
أما وبعد أن تم عرض نتائج وتوصيات الندوة المذكورة كما وردت دون تدخل, لذا يجب الإشارة إلى أن بقاء أي أمة قوية معطاءة سيكون رهن تربيتها ومناهجها التي يفترض أن تكون منفتحة ومرنة, قادرة على استيعاب الجديد في العلوم، متكيفة مع التغيرات والمستجدات الحياتية الواقع منها والمحتمل، وفي الوقت ذاته محافظة على شخصيتها المستقلة من خلال إكساب ناشئتها القيم والمثل ومكوناتها الدينية والاجتماعية كافة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي