دخول القطاع الخاص في صناعة التكرير مطلب ملح .. لكن بشروط!
خلصنا في المقال السابق إلى أن منطقة الخليج وبعض دول إفريقيا تشهد ثورة في تكرير النفط وصناعته بداعي استخدام ثرواتها النفطية مباشرة. وتشير معظم الدلائل والدراسات إلى نمو الطلب على منتجات هذه الصناعات من وقود السيارات والناقلات والطائرات وغيره بسبب نمو سكان العالم وزيادة الطاقة الاستهلاكية، وأيضاً بسبب عزوف الدول الصناعية عن زيادة طاقتها التكريرية لمواكبة الطلب المتزايد على المشتقات النفطية.
والحقيقة أن معظم دول العالم الصناعية لم تشهد أي زيادة في طاقتها التكريرية منذ أكثر من 25 سنة، بل على العكس هناك تناقص في هذه الطاقة. ويعرض الجدول (1) مقارنة بين أهم دول العالم استهلاكاً وإنتاجاً للنفط. فبحسب الجدول يمكن ملاحظة أن المملكة تتصدر الدول في نمو القدرة التكريرية، وهذه القدرة لم تأخذ في الاعتبار مصفاتي التصدير الجديدتين اللتين ستزيد الطاقة التكريرية بـ 800 ألف برميل يومياً و400 ألف برميل يومياً لمصفاة جازان المزمع إقامتها، لتصل القدرة التكريرية إلى حدود 3.3 مليون برميل يومياً بحلول عام 2012.
تبدو كوريا الجنوبية ذات الاقتصاد المدعم بالصناعات المختلفة والحديثة متقدمة أيضاً بنمو صناعاتها التكريرية، وعملاقا آسيا الهند والصين بعدد السكان الهائل هما أيضاً بحاجة ماسة إلى الطاقة والوقود، ويحتلان مراتب عالية بزيادة حاجتهما إلى الخام وللمشتقات النفطية، ومن المتوقع أن يزداد استهلاكهما كثيراً للنفط في العشرين عاما المقبلة.
المدهش في الأمر أن العالم الصناعي، ممثلاً في أمريكا وكندا والاتحاد الأوروبي، يشهد تقلصاً في قدرته التكريرية. ويوضح الجدول أنه في عام 2006م تقلصت كل من قدرة أمريكا وكندا قليلاً عما كانت عليه في 1981م. وكان الانخفاض أكثر شدة في دول الإتحاد الأوروبي، فبريطانيا شهدت انخفاضا بنسبة 28 في المائة وفرنسا 40 في المائة.
وفي اعتقادي أن استعمال بدائل النفط هو أحد الأسباب، ففرنسا مثلاً تنتج 40 في المائة من الكهرباء باستخدام الطاقة النووية وأيضاً تقنية استخدام طاقة الرياح تعتبر متقدمة بألمانيا وفرنسا.
لا شك أن تطور صناعة التكرير بهذه الدول، والتي تنتمي لها أمهات شركات التكرير مثل: "إكسون موبيل"، "شيفرون تكساكو"، "توتال"، و"كونكو فيلبس" له دور كبير في هذا الانخفاض، فمن المعلوم أن هذه الشركات قد طورت تقنيات قادرة على الاستفادة من برميل الخام إلى الدرجة القصوى، أي استخدام كل نقطة من الخام، فتقنيات التكسير الحديثة قادرة على تحويل المشتقات الثقيلة والرخيصة مثل زيت الوقود إلى مشتقات ذات قيمة أعلى مثل الديزل والجازولين والكيروسين.
فعلى سبيل المثال كان برميل الخام ينتج 50 في المائة مشتقات غازية سائلة خفيفة و50 في المائة مشتقات ثقيلة تستعمل لتوليد الطاقة، أي أن تكرير عشرة براميل كان ينتج خمسة براميل من المشتقات المطلوبة، لكن بالاستغناء عن حرق زيت الوقود لتوليد الطاقة باستخدام الغاز الطبيعي أو الطاقة النووية، فأصبح لزاماً على الدول الغربية أن تحول زيت الوقود هذا إلى ديزل وجازولين، فأصبحت عشرة براميل من الخام تنتج نحو تسعة براميل من المشتقات الخفيفة والمتوسطة ذات الاستهلاك العالمي، أي بمعنى آخر زادت فعالية مصافيهم فقل استهلاكها للخام.
والجدير ذكره أن الكمية الباقية من زيت الوقود يتم تنظيفها واستخدامها في توليد الكهرباء في محطات تنشأ قريبة من المصفاة، حيث يتم تزويد المصفاة بهذه الكهرباء وبيع الباقي على مؤسسة توزيع الكهرباء كما في أمريكا وأوروبا.
وطبعاً هنالك سبب آخر ومهم لتراجع قدرة العالم الغربي التكريرية، ألا وهو دور أنصار وحماة البيئة، الذين يرون أن مثل هذه الصناعات تشكل خطراً على بيئتهم، وبعض هؤلاء الأنصار يشكلون قوة انتخابية كبيرة كما في الولايات المتحدة، ما أدى إلى صعوبة إنشاء مصاف جديدة، فتقلصت أعداد المصافي نتيجة إغلاق المصافي الصغيرة والمتعثرة. فمثلاً كان عددها في الولايات المتحدة عام 1985 نحو 223 مصفاة، وتقلصت أعدادها رويداً رويداً حتى وصلت إلى 148 مصفاة عام 2006م، ما جعلها تستعمل طاقتها القصوى مقارنةً بـ 78 في المائة من طاقتها القصوى عام 1985م. هذا الأمر الذي كان نتيجته أن تقلصت كميات الجازولين والديزل المنتجة في الولايات المتحدة، وكثير من التقارير تعزو هذا التقلص إلى اتفاق شركات النفط الأمريكية لتقليص المعروض من الجازولين والديزل لتحسين أرباح صناعة التكرير.
ويرى بعض المحللين الاقتصاديين الأمريكيين، أن عدم زيادة قدرة أمريكا التكريرية من شأنه عدم المساعدة على استقرار أسعار المشتقات النفطية المهمة مثل الديزل والجازولين والكيروسين في الولايات المتحدة مهما زاد إنتاج النفط العالمي، وأن تبنى سياسات لا تتماشى مع صناعة التكرير، هو أمر قد يؤثر في الأمن القومي الأمريكي، خاصة في وقت الأزمات، وأزمة الطاقة المعروفة حين ضرب إعصار كاترينا باتت معلومة للجميع، وعليه فإن وجود طاقة تكريرية احتياطية هو أمر شديد الضرورة لمثل هذه الأزمات، حيث إن أغلب المصافي قد أنشئت منذ 30 إلى 40 سنة مضت، وأغلب مواصفات المشتقات قد تغيرت، وأن الحاجة إلى إنشاء مصاف جديدة تعتمد المرونة وتطبيق هذه المواصفات أصبح أمراً شديد الأهمية، لأن ما يجري حالياً هو محاولة تحديث المصافي القديمة، الأمر الذي شكل صعوبات وتحديات لشركات النفط. يُذكر أن هناك نقصا يقدر بـ 20 في المائة على المشتقات النفطية في أمريكا، ما يجعلها تستورده لتغطية العجز من بعض البلدان المجاورة، الأمر الذي يثير حفيظة بعض الأمريكيين ضد تأثير حماة البيئة الذي يرفضون بناء المصافي الجديدة.
ويرى رئيس جمعية مكرري النفط والبتروكيماويات الأمريكيين NPRA في هذا الصدد، أنه على أمريكا التوسع في صناعات تكرير النفط حتى تؤمن لسكانها الديزل والجازولين والكيروسين، الأمر الذي يعد شديد الأهمية لسلامة أمن الطاقة الأمريكي. ويرى أيضاً أن المشاكل السياسية العالمية وتفاقمها والمنافسة الآسيوية الكبيرة للاقتصاد الأمريكي قد تلقي بظلالها على تأثير الإمدادات النفطية للخام ومشتقاته للأسواق الأمريكية.
وفي الختام، وبعد النظر في أحوال أكبر مستهلك للمشتقات النفطية في العالم (الولايات المتحدة) والصعوبات التي تلاقيها صناعة التكرير هناك يتضح لنا مسوغات ازدهار صناعة التكرير ومستقبلها في المملكة كونها أكبر مصدر للخام في العالم وهي تمضي قدماً في إحراز مراتب متقدمة من بين كل دول العالم في تكريره وتصنيعه.
ولما لهذه الصناعة النفطية من منفعة للمواطن وللاقتصاد الوطني، فإن نموها وتوسعها وذلك بدخول القطاع الخاص في الصناعة يفرح قلب كل مواطن، ولكن نرجو ونتمنى أن تؤخذ المعايير والمقاييس البيئية في الاعتبار، فمثلاً الموقع الجغرافي لإنشاء المصافي وبعده عن التوسع العمراني واتجاه الرياح هي عوامل شديدة الأهمية، وأيضاً الانبعاثات من المصافي (مثل أكاسيد النيتروجين والكبريت والكربون) لها معايير عالمية ومتفق عليها يجب مراعاتها. أما المنتجات نفسها من نافثا وديزل وغيره، فإن العالم أجمع يتجه نحو بيئة أفضل وأكثر نظافة وذلك بتقليص كمية الكبريت وبعض المواد الضارة الأخرى فيها، لذا نجد أن الدول الصناعية المتقدمة مثل اليابان ودول أوروبا الغربية والولايات المتحدة تتبع نظاما صارما بتحديد نسبة الكبريت وغيره من المواد الضارة بيئياً في هذه المنتجات. ومع اتباع مثل هذه المعايير العالمية نكون قد دعمنا اقتصادنا بالتوسع في صناعة التكرير وحافظنا على بيئتنا.
* أكاديمي متخصص في صناعة تكرير النفط والبتروكيماويات ـ الظهران
[email protected]