رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


المناهج الدراسية ومعركة بقاء الأمم (2 من 3)

في بداية الثمانينيات الميلادية كلف الرئيس رونالد ريجان لجنة مستقلة لدراسة الوضع التربوي في الولايات المتحدة, وذلك لأنه لوحظ تراجع في مستوى الطلبة الأمريكيين في الرياضيات, والعلوم, وقد أصدرت هذه اللجنة تقريرها المعروف بـ: أمة في خطر, و أشارت اللجنة في تقريرها إلى ضعف مناهج الرياضيات, والعلوم, وعلى ضوء هذا التقرير استنفرت الكفاءات وبذلت الجهود في الجامعات والتعليم العالي والعام بغرض تفادي هذا القصور نظراً لأنه يمثل تهديداً لمصالح أمريكا وموقعها العالمي الذي حققته من خلال التميز العلمي. ولا شك أن الاهتمام بالمناهج أمر إيجابي لأي أمة تتطلع أن تكون أمة حية لها مقامها بين الأمم تعطي, وتأخذ, وتبدع, وتنتج, منفتحة غير مغلقة على ذاتها, وهذا لا يتأتى إلا بالأخذ بناصية العلم المادي منه والإنساني والشرعي.
نستمر في الحديث عن المناهج الدراسية لا لأنها لغز يصعب حله, لكن لأهميتها ولأنه كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة من قبل كثير من الناس منهم المتخصص ومنهم غير ذلك, ولأنها تمثل ركناً أساساً في العملية التعليمية. لقد تحدث الغربيون عن مناهجنا متهمين إياها بأنها تولد التطرف والإرهاب, وتبعث على كره الآخر, وركب الموجة مع الغربيين أفراد من بني جلدتنا بعضهم لا يعرف من المناهج إلا اسمها, إذ لا إلمام لهم بصناعة المناهج, وفنها, وقواعدها, ونظرياتها, وأصولها ومع ذلك دخلوا الساحة ينظرون, ويكتبون, وكأنهم من ذوي الخبرة والاختصاص.
هؤلاء أجهدوا أنفسهم في البحث عن كلمة هنا, أو بيت شعر هناك, أو مثل شعبي, بل إن البعض انشغل بالنصوص الدينية مستهدفاً الوقوف على ما يستدل به على بث روح العنف والتطرف, والآخر انشغل باللغة, والشعر, والأدب يبحث فيها لعله يجد ضالته خاصة حين يكون بيت الشعر يتحدث عن البطولة, والإقدام, والسيف, والحرب ظناً منهم أن هذه الكلمات هي منابع للشر, وكره الآخر ومنبع الإرهاب ولذا فهؤلاء يرددون أن من المصلحة وحتى لا يصنفنا الآخرون بالإرهابيين أن نراجع مناهجنا صفحة صفحة, وعبارة عبارة, بل وكلمة كلمة, ونحذف كل ما من شأنه أن يخلق الإرهاب في نفوس الناشئة. وكأني بهؤلاء النفر نسوا أو تناسوا العلاقة الوثيقة بين المناهج وثقافة الأمة وقيمها والعلاقة بمصالح المجتمع, بالإضافة إلى تربية الذائقة الفنية, والأدبية التي تصقل من خلال الصور الفنية التي تعرض في القصص أو قصائد الشعر, بل إنهم بادئ ذي بدء ليس لديهم إلمام بمفهوم الإرهاب الذي يتحدثون عنه ولم يجهدوا أنفسهم في تعريفه أو الوقوف على تعريف معتمد, كما أنهم لا يميزون بين الإرهاب اللفظي والإرهاب العملي, وهم بذلك يساوون بين الضحية, والجلاد, فالضحية من حقها الدفاع عن نفسها ولو بالقول, لكن الجلاد يمارس الإرهاب قولاً وعملاً.
وحري بنا ونحن نتحدث عن المناهج في بلادنا أن نسأل عن مناهج الآخرين وما تحتويه كتبهم في بطونها. إن وقفة تأمل مع تصريح لقس يطالب فيه زعماء الغرب بشن حرب صليبية على المسلمين، وعضو الكونجرس الذي يطالب بضرب الكعبة المشرفة، وصحف ترسم رسوماً تستهزئ بنبي البشرية (()، بالإضافة إلى الحاخام اليهودي الذي يصف العرب بالأفاعي والعقارب والحيوانات, أقول إن هذه وغيرها تستدعي أن نسأل أبناء جلدتنا, هل اطلعتم على هذه الأشياء؟ إن كان الجواب بلا فهذه مصيبة, وإن كان الجوانب نعم, فما رأيكم بها هل هذه التصريحات والأقوال تطرف أم لا؟! وكيف وجد هؤلاء الذين يفكرون بهذه الطريقة ولديهم مشاعر الحقد نحو المسلمين؟! هل جاءت هذه التصريحات, والدعوات للاعتداء والإبادة بالصدفة؟! وعبارة عن زلة لسان؟! أم أنه يوجد في مناهج القوم, وثقافتهم ما يعزز هذه المشاعر ويقود لهذه الأفكار؟! دعوة صادقة أوجهها لأبناء وطني وأمتي ألا يجنوا على أمتهم وأنفسهم حين يقفون مع الآخر في اتهاماته الباطلة.
إن مثقفي الغرب وسياسييه, ومفكريه الذين يدعون للعداء بين الأمم والعدوان وشن الحروب ويبشرون بصراع الحضارات لم يدرسوا مادة التوحيد, أو التاريخ, أو القراءة المدرسّة في بلادنا أو في أي بلد إسلامي, بل درسوا وتعلموا في بلدانهم, وترددوا على كنائسهم, ومعابدهم, وسمعوا المواعظ الأسبوعية وتلقفوا ما تبثه وسائل إعلامهم، فهل نعي هذه الحقيقة, ونفكر من خلال عقولنا لا من خلال مشاعرنا أو مصالحنا الشخصية ؟!
لقد قرأت الكثير مما كتب حول المناهج في بلادنا سواء ما كتب من قبل الأجانب خاصة الغربيين, كما سمعت ما قيل عبر البرامج الصاخبة الإذاعية والتلفزيونية، كما حدث في قناة الجزيرة في برنامج حافظ الميرازي أخيراً، والتي يستعرض فيها البعض مهاراته الكلامية فألفيت أن معظم هؤلاء لا ينطلقون من منطق سديد, ولا يعتمدون على منهج علمي قويم, بل إن أطروحاتهم تحركها مشاعر, وعواطف لا تلبث أن تزول حين تواجه بطرح علمي سديد. وحسبي بهؤلاء الكتاب والمتحدثين وكذا المهتمين بموضوع المناهج من القراء الكرام حسبي بهؤلاء جميعاً أن يجعلوا من المنهج العلمي أساساً في طرحهم إذا أرادوا إقناع من يخاطبون، ولعل من يبحث عن الحقيقة في شأن المناهج أن يعود لبحوث ودراسات ندوة بناء المناهج التي تشرفت كلية التربية في جامعة الملك سعود بتنظيمها عام 1424هـ حيث درس في تلك الندوة مناهج خمس عشرة دولة موزعة على قارات العالم وتبين من نتائج تلك البحوث ما تتضمنه مناهج تلك الدول من صورة للآخر لديها ومشاعر عداء نحو كل ما هو مختلف عن ثقافتها فهل نثق بثقافتنا, ونتحرك وفق مصالح مجتمعنا وأمتنا وندرك أن الآخر ينطلق في مناهجه من ثقافته, وقيمه, ومصالحه؟!
هل يريد منا هؤلاء أن نقطع صلة أجيالنا بدينها, وتاريخها, وثقافتها, وقيمها, ونسير في ركب الآخر؟! أليس الأجدر بهؤلاء أن يوجهوا خطابهم للآخر ويناقشوه في أفعاله قبل أقواله، أفعاله التي يحياها العالم, ويتلظى بنارها، من أقصى العالم إلى أدناه شرقاً, وغرباً, وشمالاً, وجنوباً. هل سأل هؤلاء أنفسهم قبل أن يقفوا في صف الآخر أيهما أشد فتكاً وتأثيراً في حياة الناس وفي البيئة, وفي النبات, والحيوان أهو عنترة بن شداد الذي يتغنى ويقول:
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقبل
في حومة الموت التي لا يتقي غمراتها الأبطال غير تغمغم
يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم

أو حين يقول أبو تمام:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا
وما هو عنها بالحديث المرجم
أم أن الأخطر من يرسل الصواريخ, والبوارج, والطائرات بكافة أنواعها وأحدثها وأقواها تدميراً وفتكاً والأسلحة الذرية التي تلقى على الشعوب الآمنة المطمئنة في ديارها. هل احتلال البلدان وتدميرها أخف ضرراً في نظركم من قصيدة عنترة!وهل قصيدة عنترة تصريح رسمي لقائد دولة عظمى يتوعد فيها بالحرب الاستباقية ومحاصرة الأمم والشعوب ومقاطعتها اقتصاديا وسياسياً وسد منافذها البرية, والبحرية, والجوية كما تفعل أمريكا مع دول العالم, وما فعل الكيان الصهيوني مع لبنان , والذي يوصف كمثال للديمقراطية في الشرق الأوسط والذي قام على أرواح وعظام الفلسطينيين؟! ولذا تطالبون بحذف شعر الرجولة والشجاعة لأنه يولد الإرهاب كما تعتقدون؟! عجبا يسمع المرء من هؤلاء وعجبا يقرأ لكن كل هذا سم زعاف تسخر منه العقول وتأنف من سماعه الآذان.
حقاً، إنها كارثة أمة ابتليت في أمثال هؤلاء حين لا يجدون ما يبرزون به أنفسهم إلا نقد مناهج وطن درسوها قبل غيرهم. وأعتقد أن الغرب قد نجح حين استنهض همم هؤلاء كي يهدموا بمعاولهم البناء الفكري والثقافي لمجتمعهم ظناً منهم أن ما يشيرون إليه من ملاحظات في المناهج تمثل عيباً ومرتكزاً للإرهاب ونسوا أن طريقتهم تمثل خطاً منهجياً لا يرقى بهذه الملاحظات إلى المنهج العلمي الموضوعي بل يضعها في دائرة المشاعر والانفعالات مثلها مثل الزبد الذي يذهب جفاءً. كما أدعوا هؤلاء الكتاب للإجابة عن سؤال: ما الذي يدعو الساسة والمفكرين الغربيين وبالذات الأمريكيين إلى معاداة شعوب العالم وبالذات العرب والمسلمين؟ أليس هؤلاء نتاج تربية ومناهج أخذت على عاتقها تمجيد الذات واحتقار الآخر وتهميشه وابتزازه وسرقة خيراته بل والسعي للفصل بينه وبين ثقافته وقيمه؟!!

كلية التربية
جامعة الملك سعود
[email protected]

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي