رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


اقتصاد الجزارة البشرية

الاقتصاد القائم على مصادر الجمال وأسبابه وعناصره واسع ومتنوع بسعة وتنوع الرغبات البشرية وتنوعها، وهو إن كان داخلا في مختلف شؤون حياة البشر من مأكل ومشرب ومسكن وملبس وأدوات زينة وحلي ووسائل نقل ورفاهية مما عرفته سائر الحضارات وتعاظم شأنه في حضارة القرن الحالي، فإنه في غضون السنوات العشرين الماضية أخذ منعطفا حرجا غادر فيه التحكم بالملامح والقسمات من خلال التلاعب بالمساحيق وأدوات الزينة إلى غزو الملامح والقسمات نفسها بمشرط جراحة التجميل والحقن والوسائد واللدائن الخاصة بذلك.
هنالك برنامج شهير تبثه إحدى الفضائيات يحمل اسم SWAN تعرض فيه الأجساد والوجوه التي تعاني تشوهات وترهلات مما يدخل في باب الدمامة التي كان الخلق يتعايش معها ولا يلتفت أو يعلق عليها كثيرا.. تذهب تلك الأجساد مدفوعة بهوس التخلص مما تعانيه من شكل غير مريح لتلقي بأجسادها على سرير العمليات الجراحية ويعمل فيها أطباء جراحة التجميل مشارطهم في الأنوف والشفاه والوجنات وكل ما قرره رسم الجمال ومخططه على الورق قبل التنفيذ، علاوة على برنامج رياضة ونظام حمية غذائية وما إلى ذلك، ثم يعرض البرنامج بضاعته الإنسانية بعد أن اكتسبت ملامح وقسمات وقواما تستدر دموع الدهشة وذهول الحضور من تحول الدمامة إلى فتنة!!
هذا البرنامج لم يعد حكرا على فضائية بعينها بل هو الآن يتمدد وينتشر في بقاع الدنيا من البرازيل إلى الولايات المتحدة, ومن أوروبا إلى إفريقيا فآسيا، وحتى عالمنا العربي الذي تتهافت شاباته ويتهافت شبانه على عيادات ومستشفيات جراحة التجميل رغم مخاطرها المرعبة ونفقاتها الباهظة.
بهذا النوع من التجميل دخل الاقتصاد القائم على التجميل مرحلة حرجة تتداخل فيها العوائد المادية الهائلة التي لا تقاس بها عوائد تجارة التجميل التقليدية بالاستغلال البشع لرغبات البشر في تحسين مظهرهم وعدم التورع عن العبث بحرمة الجسد الآدمي وإقصاء القيم والمثل الأخلاقية بإخفاء المخاطر المحتملة من آلام قد لا تزول أو مضاعفات قد تقضي على حياة الأشخاص علاوة على تربية نوع من السلوك الاستهلاكي في تبديل الملامح والقسمات كلها كما لو كانوا ينزعون ثوبا ويلبسون آخر.
اقتصاد جراحة التجميل، ليس شرا كله، فهو قد يكون بلسما لمن هو في شقاء حقيقي من تشوهات تفسد عليه حياته، لكن حين أصبح أقنعة جاهزة للاستبدال حسب المزاج وصارت الوجوه والأجساد كالصلصال لعبت بها مشارط وحقنات الجراحين فقد أصبح هذا الاقتصاد جزارة بشرية ودخل في السلخانة خليط من الأدعياء مع حفنة قليلة من المختصين وأصحاب الضمائر الحية الذين لم يروا في طب جراحة التجميل تجارة وإنما إسعافا وإسهاما في رسم البسمة على شفاه من بإمكانهم رسمها لهم وفق شروط الطب واحترازاته.
ولأن الأمر كذلك، ولأن عيادات جراحات التجميل أخذت طريقها إلى بلادنا.. يحق لنا أن نتساءل: هل تخضع هذه العيادات لمراقبة وتقييم؟ وهل الترخيص لها يمر عبر أقنية طبية بحتة أم أن قانون العرض والطلب هو الذي يسوغ حضورها حتى لو لم تكن تمتلك مواصفات الاختصاص والسلامة والوقاية؟
نقول هذا لأن مجتمعنا ليس محصنا ضد فعل الإشاعة وسياسة الإغراء والترغيب في الإقدام على إجراء مثل هذه العمليات حتى لو لم تكن ضرورية، ولمجرد التماهي مع مظهر تلك الفنانة أو ذلك الفنان.
إن دورا توعويا لا بد من القيام به، علاوة على الاحتراس والتحوط في الترخيص لعيادات جراحات التجميل .. والدور التوعوي لا يقتصر على أجهزة الإعلام، وإنما تبصير زبائن تلك العيادات في صالات الانتظار فيها بالمخاطر المحتملة لكيلا يتسرع الناس فيلقون بأنفسهم إلى ما قد يندمون عليه حيث لا ندم ينفع.
هذا دور وزارة الصحة وجهات التراخيص لمثل هذه العيادات.. فالشركات الأجنبية الباحثة عن الاتجار بالجزارة البشرية لا تخفي تهالكها في البحث عن موطئ قدم لها بيننا ومنا كثيرون يميلون إلى الثقة بالشركات الأجنبية بالذات والتي قد لا تكون محل هذه الثقة ولا وكيلها أو شريكها في النفاذ لسوقنا المحلية بمقدر للمخاطر والاستغلال.
إننا نعلق أملنا على وزارة الصحة، خصوصا الهيئة السعودية للتخصصات الصحية بأن لديها من الاحتراس ما يفوق هذه الكلمات العابرة ومن الإجراءات الصارمة ما يحول دون أن ندفع بالبعض منا إلى سلخانات بشرية لا يهمها سوى المال فحسب!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي