رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الإعلام: الفلسفة والممارسة (2 من 2)

[email protected]

الإعلام هذه السلطة الجبارة أو السلطة الرابعة، كما يحلو للبعض أن يسميها. حقاً إنها سلطة وأخذت هذه الصفة بكل جدارة واقتدار. لماذا هي سلطة؟ لأنها تدغدغ العواطف وتنشط العقول أو تقتلها وتؤثر في السلوك الإنساني بصورة عامة, حتى إن الفرد وبفعل الإعلام وتأثيره يتحول إلى ما يشبه الآلة يتصرف دون وعي وتركيز في نوع السلوك الذي أقدم عليه ودون إدراك لحجم الضرر المترتب عليه, الإعلام كان مرئياً أو مسموعاً أو مقروءاً يختلف الكثير حول فلسفته وأهدافه وأساليبه. البعض يرى أن الإعلام لزيادة الثقافة، وتوسيع المدارك، ومتابعة الأحداث حال حدوثها ولا غير، لكن فريقاً آخر ينظر للإعلام على أنه وسيلة ترفيه تبدد الملل، وتكسر الروتين، ولا حرج في أن يكون ترفيهاً غير بريء كما يرى هؤلاء. الفريق الثالث، إزاء الإعلام في أهدافه، يرى أن الإعلام ذو قيمة تربوية ومؤثرة في الناشئة، تبني اتجاهاتهم أو تهدمها، وتشكل عقولهم إزاء كثير من القضايا كما تدفعهم للتصرف نحو أمور دون غيرها. هذا الفريق ينطلق في رأيه هذا من حقائق واقعية، حيث إن الإعلام أصبح شريكاً للوالدين في تربية وتنشئة الأبناء، بل إنه أصبح شريكاً منافساً يقدم لهم خلاف ما يرتضيه الوالدان، ويغرس في النفوس أموراً تتناقض مع وظيفة المدرسة، حتى إن الأبناء يقضون مع
وسائل الإعلام خاصة التلفزيون أوقاتاً طويلة نظراً لإغراءاته وجاذبيته وقد يفوق ما يقضونه في الجلوس أو الحديث مع الوالدين، أو ما يقضونه في القراءة وعمل الواجبات المدرسية.
وإزاء هذه الحقائق يتطلب الأمر أن نسأل هل ما يعرض في الإعلام يخدم ويسهم في بناء الأفراد والمجتمع بناءً سليماً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً وقيمياً؟! وللإجابة عن هذا السؤال لا بد في البداية من تناول الموضوع من خلال مفهوم أو فلسفة حرية الإعلام التي تطرح حيث يرى الكثير من المهتمين بالشأن الإعلامي أن الإعلام دون حرية لا يمكن ممارسة دوره والقيام بواجبه حيال مجتمعه وقضايا أمته، ذلك أن تكبيل الإعلام والقائمين عليه يحد من حركتهم ويجعلهم مترددين في عرض الحقائق التي قد تكون موجودة في المجتمع ولا يمكنهم في مناخ لا يتيح هامشاً من الحرية من تقديم الحلول للمشكلات والقضايا أو عرض الأسباب.
ولا شك أن موضوع حرية الإعلام قضية شائكة إذ ينظر لها البعض على أساس أنها أمر لا بد منه ويجب أن تكون هذه الحرية دون أي حواجز أو موانع، بينما يرى البعض أن حرية منضبطة وملتزمة بقيم المجتمع تخدم أهدافه وتحافظ على تماسكه وتتجنب كل ما يمكن أن يحدث الفرقة والشقاق بين أبنائه أو يمس بمصالحه هي الأفضل والأجدى ويرفض هذا الفريق الحرية المطلقة التي لا حدود لها ولا منطلقات واضحة لأن هذه الحرية تحدث الفوضى وتثير القلاقل وتستثير الغرائز.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الولايات المتحدة ترفع شعار حرية الإعلام, وكثيراً ما تجعل من حرية الإعلام في الدول الأخرى قضية تطالب الحكومات بإصرار وقوة تحقيقها لأنه وفق المفهوم الأمريكي تعتبر حرية الإعلام حقاً لازماً وأسلوباً مشجعاً على المشاركة الشعبية، لكن الغريب في الولايات المتحدة أنها غيبت هذا الحق وحرمت وسائل إعلامها من حرية تغطية نتائج الحرب المدمرة في كل من أفغانستان والعراق ومن غير المسموح للإعلام الأمريكي أن يغطي أو ينشر بعض الصور حول القتلى الأمريكان أو ضحايا العدوان الأمريكي وذلك توظيفاً لمبدأ مصلحة الأمة الأمريكية، لكن هذا المبدأ يغيب لدى الساسة الأمريكان عند الحديث عن الإعلام في الدول الأخرى بل إن الأشنع في هذا الأمر قتل الصحافيين ورجال الإعلام من قبل القوات الأمريكية على الساحة العراقية، حيث قتل العشرات منهم. ومهما يكن الأمر فإن الرقابة الرسمية لا تعلو ولا تصل إلى مستوى الرقابة والضبط الذاتي الذي يمارسه الإعلامي ويشعر من خلاله بمسؤوليته نحو مجتمعه وقيمه وفي مثل هذه الحالة تكون الممارسة الذاتية منضبطة وتخدم المصلحة العامة وهذا ما لمسناه لدى منسوبي الإعلام الأمريكي الذين جعلوا من مصلحة وطنهم فوق كل اعتبار وغابت حينها حرية الإعلام عدا بعض الكفشات التي لا بد منها بغرض استمرار مفهوم حرية الإعلام رائجاً من أجل محاسبة الآخرين بناءً عليه.
أما الإعلام العربي فإن وقفة تأمل في الواقع تكشف أن الإعلام الجيد، والحميد موجود على الساحة، وله جمهوره، وآلياته، لكنه يجد منافساً شرساً من إعلام هدام غايته إثارة الغرائز وتكريس سلوك الاستهلاك، وتقديم نماذج سيئة في سلوكها، وتصرفاتها، حتى تحولت هذه النماذج إلى قدوة يحتذي بها الشباب، والناشئة في ملبسهم، ومظهرهم، وشؤون حياتهم كافة.
أمثلة من ممارسات بعض وسائل الإعلام العربي المحيرة للعقل تكشف لنا الدور السلبي الذي تمارسه هذه الوسائل أو بعضها على وجه الدقة. التلفزيون الواقعي, الذي وظفته إحدى القنوات التلفزيونية لنقل مشاهد من تجمع شبابي يعيشون في واد مع الموسيقى، والطرب، والعبث، وإضاعة الوقت, ماذا يمكن أن يحدث هذا البرنامج من تأثير في المشاهدين؟ هل هذا البرنامج سيثير طموح المشاهدين؟ وهل ستتشكل لديهم الرغبة، والهمة لنيل المعالي، والسير في طريق العلماء، والباحثين والمستكشفين، أم أنهم سيقلدون من يشاهدونهم من شبان وشابات ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا محل فرجة للآخرين، وهم يتمايلون، ويصفقون بأيديهم، وعقولهم وحسبي بهم لا يجيدون غير ذلك.
مثال آخر توقفت عنده طويلاً متأملاً ومتسائلاً حول الهدف من ذلك البرنامج حيث عرضت إحدى الفضائيات العربية مقابلة مع أحد الشاذين جنسياً تحاوره وتناقشه في حياته وعلاقاته، لكني والحقيقة، وإن كانت مرة، لا بد أن أقول إني لم أجد سبباً واضحاً لتلك المقابلة ذلك أن تلك المقابلة لا تعدو أن تكون ترويجاً لهذه الفئة، وحياتها الشاذة المنافية للطبيعة البشرية، ولا غير ذلك. فهل يراجع القائمون على هذه الوسائل الإعلامية والمشاركون فيها ما يقدمون من برامج حتى نضمن آثاراً تربوية حميدة تنعكس على المجتمع بصورة عامة، ومتابعي الوسائل الإعلامية بوجه خاص، ولا ننسى في هذا الصدد مفهوم القدوة كأحد المفاهيم السائدة في التربية خاصة عندما يكون المشاهدون من الأطفال وغير الناضجين وتقدم لهم هذه النماذج على أساس تميزها وتفوقها ولدعم سبيل الإيحاء فالطفل قد لا يستطيع تمييز الغث من السمين في هذه البرامج التي تعرض عليه.
ماذا لو أن تلك الفضائية عرضت للمشاهدين صورة حية عن حياة البحر والأحياء الموجودة فيه سواء كانت نباتية أو حيوانية وماذا لو عرضت برنامجاً عن مجاهل إفريقيا وغاباتها أو الحياة في القطب أو سيبيريا وما إلى ذلك من مواضيع تشد المشاهد وتفيده في الوقت ذاته بدلاً من شد انتباهه وتفريغ عقله من محتواه الإيجابي وملئه بمحتوى سلبي مضر، أليس هذا أجدى لشبابنا وأمتنا بدلاً من أن تنفق الأموال على أمور ليس لها مردود سوى العبث والضياع؟ وماذا لو أن الفضائية الأخرى أجرت مقابلة مع عالم في مختبره تكشف لنا حياته بصورة عامة وبرنامجه اليومي بشكل خاص وهو يتابع أبحاثه وتجاربه، أليس المجتمع بحاجة لهؤلاء كي يكونوا قدوة لأجيالنا بدلاً من نماذج تهدم ولا تبني وتفسد ولا تصلح في البناء
الاجتماعي؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي