بنك جرامين بين الاقتصاد الإسلامي والرأسمالي
أسعدني، كما أسعد الكثيرين، خبر حصول الدكتور محمد يونس وبنك جرامين على جائزة نوبل للسلام لعام 2006. وقد فرحنا بذلك لأنه شخص مسلم قدم عملاً متميزاً نال به إعجاب العالم، وأثبت أن الإنسان عندما يكون مؤمناً بمبدأ ما فإنه يستطيع بالعمل والاجتهاد تحقيق هدفه والوصول إليه. ويكمن التميّز الذي حازه محمد يونس بمزجه بين الهدف الإنساني والهدف الرأسمالي للمنشأة، حيث أثبت إمكانية عدم تعارض المبدأين، الأمر الذي لم يكن متعارفاً عليه في النموذج التقليدي للمنشأة. وقد قرأت العديد من المقالات لعدد من الكتاب في صحفنا اليومية البعض منها ركز على النموذج الذي قدمه محمد يونس وحاول تجيير هذا النجاح لصالح مبادئ الاقتصاد الإسلامي على حساب الاقتصاد الرأسمالي. والبعض الآخر تبنى نظرية المؤامرة في عدم إعطاء محمد يونس جائزة نوبل للاقتصاد. وحقيقة قد ترددت كثيراً قبل كتابة هذا المقال خوفاً من إساءة فهم النقطة الذي أسعى إلى توضيحها. ولكن قررت المضي في الكتابة في هذا الموضوع لثقتي بأن القارئ ذو وعي وبصيرة وعلى مستوى يمكنه من فهم النقطة التي أسعى للوصول إليها.
فيما يخص عدم حصول محمد يونس على جائزة نوبل في الاقتصاد أعتقد ولست جازماً بأن السبب الرئيسي في ذلك أن هذه الجائزة - كغيرها من الجوائز المقدمة في حقول المعرفة الأخرى - تقدم بناء على الرصيد البحثي المنشور في الدوريات الاقتصادية المعروفة. وتتم الترشيحات من أشخاص باحثين وأكاديميين لهم إضافات متميزة في الحقل المعرفي الاقتصادي. ويفترض أن يكون للمرشح إضافة متميزة في حقل النظرية الاقتصادية وليس في تطبيقاتها لكي يتسنى ترشيحه. فإذا ألقيت نظرة سريعة على الأبحاث التي نال بها عدد من الأشخاص الجائزة ستجد أنها قد أضافت شيئاً متميزاً إلى النظرية أدى إلى بناء معرفي في أحد حقول المعرفة الاقتصادية. من هؤلاء مثلاً جون ناش الحاصل على الجائزة عام 1994 بالمشاركة مع جون هارساني ورينهارد سيلتين، الذي قدم بناءً نظرياً رياضياً لتحديد مفهوم التوازن أدى إلى تقدم مذهل في مجال نظرية الألعاب Game Theory. بينما ما قدمه محمد يونس لا يتعدى كونه تطبيقاً من تطبيقات النظرية الاقتصادية وليس إضافة إليها. بمعنى آخر ما قدمه محمد يونس هو إنجاز إنساني أكثر من كونه إنجاز اقتصادي، والذين يقولون بغير ذلك يحتاجون إلى مراجعة أبسط كتب التمويل والاقتصاد ليجدوا أن ما فعله محمد يونس هو تطبيق مبادئ الاقتصاد المالي الحديث. كما أن الحصول على جائزة نوبل في السلام، في رأيي، أهم من جائزة نوبل في الاقتصاد، وذلك لأنها الجائزة الرئيسية التي بدأت بتقديمها مؤسسة نوبل، ثم أضيفت إليها فروع العلوم المختلفة.
وفيما يخص تجيير الجائزة لمبادئ الاقتصاد الإسلامي وربط ذلك بتحريم الربا، فأعتقد أن هناك سوء فهم كبير للكيفية التي يعمل بها بنك جرامين. فبنك جرامين قائم على فكرة أن منح القرض ليس فقط للمقتدرين مالياً والذين يستطيعون تقديم الضمانات المالية اللازمة للقرض ولكنه يركز على تقديم القرض لغير المقتدرين مالياً. فالبنك - خلافاً للمبدأ الذي يقوم عليه البنك التقليدي - يفترض أن الحصول على الديْن هو حق إنساني لكل شخص بغض النظر عن ملاءته المالية. فالبنك لا يقيم ملاءة الشخص المالية بناء على ما يملكه حالياً وإنما بناء على قدرته الإنتاجية في المستقبل. كذلك هدف البنك ليس فقط تعظيم الأرباح وإنما تقديم الخدمات المالية للفقراء، خصوصاً النساء منهم، وذلك لمساعدتهم على تخطي الفقر وتحقيق أرباح مجزية. إضافة إلى ذلك يسقط القرض عن المقترض في حالة وفاته ولا يلزم ورثته بسداده، وذلك لأن المقترض مؤمن في مواجهة مثل هذا الحدث. وقد حقق البنك في ذلك نجاحاً كبيراً، إذ استطاع الوصول إلى الفقراء في أماكن إقامتهم وتقديم القروض لهم وإعانتهم على تحقيق حياة معيشية أفضل. كل ذلك جيد وعمل إنساني متميز اكتسب به البنك ومؤسسه محمد يونس إعجاب الكثيرين، حتى ألهم الكثيرين لتأسيس تجارب مماثلة في أماكن أخرى من العالم. المشكلة التي يقع فيها البعض هي عندما يبدأون بتجيير هذا الإنجاز لمبادئ الاقتصاد الإسلامي، مع أن البنك لا يعمل وفقاً لذلك. فطريقة عمل البنك تقوم على أساس أن يكون المتقدم بطلب القرض منضماً إلى إحدى مجموعات المقترضين التي تعمل كضامن للقرض ويقدم القرض بفوائد مثله في ذلك مثل القرض الذي تقدمه البنوك التقليدية. الأمر الذي يتميّز به بنك جرامين أن الفوائد لا يمكن أن تتجاوز بأي حال من الأحوال القيمة الإجمالية للقرض، كما أن للمقترض إعادة جدولة القرض في أي وقت يريده، وذلك بعكس البنك التقليدي الذي يبدأ في السعي خلف المقترض ومطالبته بسداد ما عليه حال تعثره في السداد. والحقيقة أن هذه الطريقة التي يعمل بها بنك جرامين هي السر في نجاحه وتقبله لدى كثير من الناس وخاصة الفقراء في بنجلادش. فالبنك حاز على احترام المقترضين قبل غيرهم، مما أعتقد أنه أسهم في ارتفاع نسبة السداد للقروض. الأمر الذي أختلف مع الكثيرين فيه هو عندما يربطون نجاح البنك بتطبيقه مبادئ الاقتصاد الإسلامي مع أنه قائم على تقديم القرض بفائدة، إذ كيف يستقيم الأمر في ذلك. لا اختلاف على أن مبادئ الاقتصاد الإسلامي تمثل المبادئ القادرة على تعظيم المنافع سواء للفرد أو المنشأة أو المجتمع، ولكن لا ينبغي أن نجيّر عملاً معيناً لمبادئنا الإسلامية السامية دون التأكد من حقيقة تمثيله له.
أعتقد أن افتقارنا إلى المثل في عالمنا الإسلامي أدى بالبعض إلى التعجل في محاولة تجيير ذلك الإنجاز لمبادئنا الإسلامية مع وجود تضارب واضح معها. بل إن البعض بدأ بالهجوم على محاولات أسلمة أنشطة البنوك المحلية، مدعياً أنها فقط محاولة لترويج خدماتها باسم الإسلام، مع أن هذه البنوك تسعى إلى تقديم خدمات متوافقة مع الشريعة الإسلاميةً. فهل تستوي المقارنة بين بنك يسعى إلى تطبيق مبادئ الشريعة وبنك يسعى فقط إلى تطبيق مبادئ إنسانية بحتة. ولقد قمت بالبحث في موقع بنك جرامين على الإنترنت للتأكد عما لو أشار فيه إلى تبنيه لمبادئ الاقتصاد الإسلامي، ولم أجد ما يدل على ذلك. فكل ما يشير إليه البنك هو هدف محاربة الفقر، بمعنى هدف إنساني بحت، وهناك فرق بين الهدف الإنساني البحت والهدف الإنساني المبني على قواعد الشريعة الإسلامية السمحة.
وفي النهاية فتجربة محمد يونس تجربة فريدة استحق بها الجائزة التي حصل عليها وتؤكد أن الإنسان الفرد إذا أخلص في سبيل مبدأ معيّن، فإنه يستطيع أن يحقق هدفه، بعكس الإنسان السلبي الذي يحاول تعليق عجزه دائماً على النظام أو المجتمع من حوله.