منافسة فكرية وتفسيرات متباينة لقواعد التمويل الإسلامي بين دول الخليج وشرق اّسيا
بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على النظام المالي الإسلامي الحديث، حان الوقت لاستعراض الماضي، والتأمل في مستقبل هذه الصناعة التي تنمو بسرعة.
ودفعت معدلات النمو بخانتين عشريتين التي حققتها الموجودات التي تتقيد بأحكام الشريعة الإسلامية في العقد الماضي خبراء المال الإسلاميين بصورة طبيعية إلى التطلع إلى ما وراء الحدود التاريخية بحثاً عن مناطق جديدة لممارسة أنشطتهم فيها، داخل العالم العربي وخارجه.
واستجابة لضغط التنافس المتزايد النابع من دخول لاعبين جدد إلى السوق، بدأت البنوك الإسلامية القائمة في الاستفادة من ميزات التنافس الطبيعية التي تتمتع بها، ومن بينها ولاء العملاء، والحساسية تجاه الممارسات الدينية، والقواعد الثابتة للإيداعات الرخيصة. وتحركت حتى البنوك التقليدية لفتح فروع لها تعمل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، أو تأسيس بنوك أو شركات تابعة لها تعمل وفق هذه الأحكام، أو تغيير النظم المعمول بها لديها بحيث تصبح كلها متفقة مع أحكام الشريعة. وتنجذب سوق التجزئة التي تعتبر دافع الربح الرئيسي للبنوك في الخليج إلى ما يمكن أن تقدمه المصارف الإسلامية.
ويقدر حجم الموجودات العالمية التي تتقيد بأحكام الشريعة اليوم بمبلغ 400 مليار دولار أمريكي، بينما تعتقد مؤسسة ستاندارد آند بورز لخدمات التصنيف أن السوق المحتملة للخدمات المالية الإسلامية تقارب أربعة تريليونات دولار، مما يعني أن الحصة السوقية للنظام المالي الإسلامي في الوقت الحالي في المجتمع الإسلامي في العالم كله هي 10 في المائة فقط، وما زال أمام هذا النظام مشوار طويل.
أظهرت البنوك الإسلامية في الخليج ربحية قوية ينبغي أن تواصل تحقيقها ما دامت إيرادات النفط تصب في الاقتصادات الخليجية، محافظة بذلك على الزخم الاقتصادي عبر أثر المضاعِف الاستثماري القوي. على أن من المهم ألا تقنع الصناعة المصرفية الإسلامية بما حققته. وهناك عدد من الأمور التي تحتاج إلى معالجة، من أهمها المخاطر المتعلقة بالحجم والتركيز.
كما أن تحقيق إطار فكري مشترك يوحد الأساليب التي يتبعها المركزان التاريخيان للمصارف الإسلامية - وهما الخليج وجنوب شرق آسيا - من شأنه أن يذهب بعيداً بحيث يمكِّن الصناعة المصرفية الإسلامية من التوسع والتنويع.
إن سوق الأذونات notes التي يتم إصدارها وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية التي تعرف أيضاً باسم الصكوك مهيأة للتوسع بسرعة. وفي الوقت الحالي، فإن "ستاندارد آند بورز" تصنف أكثر من خمسة مليارات من سوق العشرة مليارات دولار الخاصة بالصكوك المدرجة التي يتوقع أن تنمو إلى ما يزيد على 20 مليار دولار في نهاية هذا العقد. ففي الخليج، أصبح الاستثمار في الصكوك جزءاً من التوزيع والتنويع السائد للموجودات، مع نظر البنوك الإسلامية بصورة خاصة إلى هذه الأذونات باعتبارها أداة مهمة في إدارة موجوداتها ومطلوباتها، وفي إعادة تدوير السيولة.
البنوك الإسلامية تتوسع خارج حدودها التاريخية
يشهد نظام التمويل الإسلامي في الوقت الحالي توسعاً خارج حدوده التاريخية التي بدأ بالظهور فيها في سبعينيات القرن الماضي، وذلك نتيجة للطفرة النفطية. ويتزايد انجذاب البلدان الإسلامية العربية وغير العربية، خاصة في آسيا، إلى المبادئ التي يقوم عليها التمويل الإسلامي. ولأول مرة في تاريخ هذه الصناعة، قامت عدة مصارف إسلامية توجد مقارها الرئيسية في الخليج في الآونة الأخيرة بتأسيس أنشطة لها في ماليزيا، مع الملاحظة في الوقت نفسه أن الأسواق الكبيرة والعميقة في كل من إندونيسيا والصين على بعد مسافة قصيرة من المسرح الماليزي. وتتبدى آفاق جديدة أيضاً لنظام التمويل الإسلامي في محيط العالم العربي: لبنان، سورية، وتركيا، وإلى حد أقل، شمال إفريقيا تم تحديدها باعتبارها بلداناً يحتمل أن تفتح أبوابها لترخيص أفرع لهذه البنوك.
الاستفادة من الميزات التنافسية الطبيعية
معالجة الأمور الكبيرة ومخاطر التركز
وحول الكرة الأرضية خارج الحدود الطبيعية للعالم الإسلامي، تَعِد الأسواق المتقدمة لكل من أوروبا وأمريكا الشمالية بشرائح سوقية يمكن لنظام التمويل الإسلامي أن يكسب فيها زخماً مربحاً، وذلك وفقاً لما يظهر من ترحيب متزايد من جانب المجتمع المالي بالبنك البريطاني الإسلامي، ونظيره المتخصص بالاستثمار البنكي، وهو بنك الاستثمار الإسلامي الأوروبي. ويعتبر هذا عملاً على نطاق دولي محدود، ولكنه لم يصل إلى حد العولمة بعد، وما زالت أمامه بعض التحديات.
إن المراكز السوقية الحالية للبنوك الإسلامية القائمة تتعرض لضغط تنافسي كبير. ورغم أن المؤسسات المالية الإسلامية "العريقة" - مثل بنك الراجحي (وتصنيفه أ/ مستقر/ أ-1)، وبيت التمويل الكويتي (أ-/ مستقر/ أ-2)، ومجموعة البركة المصرفية (غير مصنفة)، وبنك دبي الإسلامي (أ/ مستقر/ أ-1)... ما زالت لديها إمكانات مشرقة في أسواق بلدانها، إلا أن الضبابية تحيط بالداخلين الجدد.
دخول بنوك جديدة إلى السوق
بدأت البنوك الاستثمارية التي تعمل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية تهز قواعد التمويل الإسلامي القديمة عبر تقديم نماذج عملية أكثر جرأة (وناجحة حتى الآن). ومن الأمثلة على هذه البنوك، بيت التمويل الخليجي (ب ب ب/ مستقر/أ-3)، وبنك أركابيتا (غير مصنف)، وبنك الاتحاد للاستثمار (غير مصنف). ويضاف إلى ذلك، أن بنوكاً منافسة جديدة من الوزن الثقيل بدأت بالظهور لأول مرة، مدفوعة بالطموحات المقرونة بالمبادرة لدى أصحاب المشاريع الخليجيين: بنك الريان، والمصرف، وبنك بوبيان، وبنك البلاد هي أمثلة على المؤسسات التي تستطيع أن تعيد تشكيل هذه الصناعة برمتها، إذا أخذنا في الاعتبار الحجم الكبير نسبياً لقواعدها المالية بحسب المعايير الإقليمية، واستراتيجياتها التي تركز على أهداف معينة.
وحتى المؤسسات المالية التقليدية المترسخة، وجدت أن من المناسب، إن لم يكن من الضروري، أن تدخل في معترك التمويل الإسلامي الواعد، رغم اختلاف أساليبها الاستراتيجية. واختار البعض منها طريق فتح أفرع تعمل وفقاً للنظام الإسلامي (خاصة في السعودية وقطر)، واختار بعضها تأسيس شركات أو بنوك تابعة لها تقدم خدماتها كافة وفقاً لأحكام الشريعة، مثل بنك الإمارات الدولي، وبنك المشرق، واختار البعض الآخر التحول الكامل إلى العمل بموجب أحكام الشريعة. ويعتبر هذا البديل الأخير الذي اختاره بنك الشارقة الإسلامي، وبنك الكويت العقاري، وبنك الإمارات الإسلامي، وبنك دبي الأكثر تطرفاً، وهو حتى الآن الاستراتيجية التي وقع عليها اختيار الكيانات الأصغر التي وجدت نفسها مستندة إلى الحائط، وفي مواجهة بدائل الاندماج، أو التخصص، أو الاختفاء. وبينما تتضح صعوبة الخيار الأول، فإن الخيار الثاني، وهو التخصص، يشكل فرصة تنطوي على التحدي.
وتميل الهوية الإسلامية إلى تزويد البنك بعنصر مباشر وحقيقي للتميز، الأمر الذي يساعد في بناء حواجز ومعوقات أمام الدخول في وقت تشتد فيه المنافسة المحلية، والإقليمية، والأجنبية في الخليج. ومن الصعب لمنافس تقليدي أن يكرر السمعة الطبيعية التي كونتها مؤسسة مالية إسلامية لدى عملاء التجزئة الذين لديهم حساسية للاعتبارات الدينية تفوق حساسية الشركات التي تهتم بالخدمة والسعر أكثر من أي شيء آخر. ويعتبر هذا الشيء غير الملموس ولكنه قوي نذير خير، لأن دافع الربح الرئيسي للبنوك الخليجية هذه الأيام هو سوق التجزئة، التي تقدم أكثر العوائد على المخاطر جاذبية.
ولا ينبغي أن تركن البنوك الإسلامية إلى ما حققته، لأن أمامها رحلة طويلة لبناء اعتراف أقوى بها، وسجلات أداء أطول، ووزناً أكبر. وإلا تعرضت لخطر الانكفاء على نفسها وسط أسواق مالية معولمة بشكل متزايد، وذلك على حساب 30 سنة من التقدم. ومن أجل مواصلة مسيرتها بشكل سليم، يجب عليها أن تعالج أموراً عدة. فالحجم مسألة خطيرة بقدر خطورة التركز. وتظل البنوك الإسلامية، حتى الأكبر منها، صغيرة بالمقاييس العالمية، وتستمر حقائبها في التركيز على عدد محدود من فئات الموجودات ومن شرائح السوق.
إطار فكري مشترك بمشاركة جميع اللاعبين
يبدو أن اللجوء إلى الاندماج في صناعة التمويل الإسلامي أمر مستبعد، بينما شرع المركزان التاريخيان للمصارف الإسلامية - الخليج وجنوب شرق آسيا - في التحدث إلى بعضهما. ذلك أن المنافسة الفكرية والتفسيرات المتباينة لقواعد التمويل الإسلامي الأساسية أبقت هاتين الجهتين متفرقتين. ويمكن لمزيد من التفاعل فيما بينهما أن يسهم في النهاية في ظهور إطار فكري مشترك للتمويل الإسلامي. وهذا بدوره يمكن أن يترجم إلى ممارسات أفضل على صعيد النظام المحاسبي، والحوكمة، والشفافية، والإدارة في البنوك الإسلامية - وهذه أشياء لا بد منها إذا أرادت هذه البنوك أن تحقق طموحاتها العالمية.
وتتأكد أهمية الدور الذي تلعبه لتحقيق هذه الأهداف مؤسسات مثل منظمة المحاسبة والتدقيق الخاصة بالمؤسسات المالية الإسلامية، والمجلس الإسلامي للخدمات المالية، والبنك الإسلامي للتنمية ( أ أ أ/ مستقر/أ-1+). وعلى أية حال، ففي النهاية، فإن السوق نفسها، بما فيها حملة أسهم البنوك الإسلامية - ينبغي أن تتولى مسؤولية استدامة نموذج عملي على وشك أن يبلغ سن الرشد.
إن أي تفحص لنظام التمويل الإسلامي لا بد له من إلقاء نظرة متعمقة على الصكوك التي تعتبر أذونات إسلامية تتوافق مع أحكام الشريعة وبديلاً عن السندات التقليدية. ويتم تدعيم ضمانات الدين هذه بعدة أنواع من الموجودات التي يتم إنشاؤها، وتملكها، وإدارتها من قبل الجهة التي تنشئها والتي هي أيضاً الجهة التي تصدرها.
وباعتبار الصكوك أدوات مالية مدعمة بالموجودات، فإنها بطبيعة الحال تكون منسجمة مع واحد من المبادئ الشرعية التي تطبق على العمليات المالية - من حيث إن أي تمويل ينبغي أن يرتبط بأحد الموجودات الأساسية الملموسة والقابلة للتحديد.
البنوك الإسلامية حديثة عهد بإصدار الصكوك
تم تسليط الضوء على سوق الصكوك في عام 2002 حين قامت حكومتا البحرين وماليزيا بإصدار أذونات وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، وذلك كخيار مقصود لتوفير مزيد من الوضوح، والعمق، والسيولة لما كان في ذلك الوقت ممارسة غير شائعة. وفي نهاية عام 2002، لم تزد سوق الصكوك على مليار دولار في وقت كان فيه تعزيز سجل أداء التمويل الإسلامي على رأس أجندة الحكومات والمصرفيين في جزء كبير من العالم الإسلامي. وبعد أقل من أربع سنوات، تجاوز الحجم الظاهر للصكوك الخط الرمزي لعشرة مليارات دولار. ونتوقع أن يتوسع حجم هذه السوق بسرعة في المدى المتوسط إلى الطويل.
ورغم أن الحكومات ظلت أكبر الجهات التي تصدر الصكوك، فإن هذه السوق تشهد الآن توسعاً، بحيث أخذت جهات غير حكومية تصدرها. وأصبحت السندات الحكومية معلماً يهتدى به، ليس من حيث السعر فحسب، ولكن أيضاً من حيث كونها هيكليات مقبولة من المنظور الشرعي والمالي.
وليست هناك سوق ثانوية للصكوك من ناحية فعلية. ذلك أن الطلب الكبير على الاستثمار، المرتبط إلى حد كبير بالسيولة المتوافرة في منطقة الخليج، يسعى إلى معروضات ما زالت محدودة من الوسائل التي تتفق مع أحكام الشريعة، ويرجع ذلك إلى وجود بعض الخلافات في تفسير ما هو شرعي وغير شرعي بالنسبة للصكوك. وكمثال على ذلك، فإن ما قد يعتبر أداة استثمارية مباحة في ماليزيا المتحررة، قد لا يعتبر مباحاً في السعودية المحافظة. ورغم هذه الاجتهادات، فإن الرواج الحالي للصكوك الذي نشهده في أوساط المستثمرين، مؤسسات وأفراداً، في الخليج وفر حافزاً قوياً لجهات مصدرة للصكوك من خارج المنطقة للدخول في هذا المجال الذي يوفر سيولة هائلة. ووفقاً لمصادر عديدة، فإن حكومة اليابان نفسها تدرس إصدار فئات من السندات التي تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية بما يناسب احتياجات زبائنها الاستثماريين في دول الخليج الغنية بالنفط.
ومن المدهش والمستغرب أن البنوك الإسلامية لم تنشط في إصدار الصكوك إلا منذ عهد قريب. وفي الحقيقة، لم تقم أي من المؤسسات المالية الإسلامية الكبيرة في منطقة الخليج بإصدار أي صكوك حتى أواخر عام 2006.
وكان على السوق أن تنتظر حتى شهر أيلول (سبتمبر) 2006، لكي يقوم أحد البنوك الإسلامية بإصدار أول دفعة كبيرة من الصكوك البنكية - ولم يتم ذلك على يد واحد من البنوك الإسلامية الكبيرة في السعودية، أو الكويت، ولكنه جاء على يد مؤسسة مالية صغيرة نسبياً، هي بنك الشارقة الإسلامي الذي تحول إلى بنك لا يقدم إلا الخدمات التي تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية في عام 2002 فقط.
ومن المتوقع أن يصل حجم الصكوك الصادرة عن بنك الشارقة الإسلامي إلى 330 مليون دولار على الأقل. ونتوقع أن تشكل هذه الصكوك الدفعة الأولى من سلسلة إصدارات، لأن عدداً من المؤسسات المالية الإسلامية البارزة في الخليج تتهيأ لجمع الأموال وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية عبر إصدار الصكوك. وتواجه البنوك الإسلامية التحديات نفسها التي تواجهها البنوك التقليدية. ومن بين هذه التحديات قيام هذه البنوك بتعديل وسائل التمويل المتبعة لديها عبر مزيد من الصناديق طويلة الأجل، وذلك بهدف إدارة مواعيد الاستحقاق غير الملائمة بطريقة أفضل، حين تزداد قيمة الموجودات. وربما كان إصدار الصكوك هو أنسب الطرق لتحقيق هذا الهدف، لأن المناخ الاقتصادي الإقليمي موات حالياً والأسعار جذابة.