البيروقراطية قاتلة للتنمية ... وهذا اقتراحي للمجلس الاقتصادي الأعلى
سبق أن عملت في الجهاز الحكومي لنحو عقد من الزمان وكانت تجربة ثرية بكل المقاييس، وهو ما يجعلني الآن ومن خلال موقعي في القطاع الخاص أقف في كثير من القضايا مع وجهة نظر القطاع الحكومي أكثر من مواقف القطاع الخاص، التي في كثير من الأحيان تتسم بقصر النظر والمصالح الضيقة. ولكن هناك العديد من القضايا تجعلني في حيرة، حيث يكون لدي الكثير من التحفظات وعلى رأسها آليات اتخاذ القرار وحركة السلحفاة، التي هي طبيعة العمل الحكومي بكل أسف، وكأنها لا بد وأن تكون بسرعة خمسة كيلو مترات في السنة في أحسن الأحوال. ومما يزيد من حجم المشكلة أن الشخص المسؤول هو من يحدد الأولويات فيما يخص المواضيع ذات العلاقة بتلك الجهة الحكومية أو تلك. وهي مشكلة تزيد من قتامة الصورة، حيث الذي يقرر أيضا حجم سرية وعدم سرية العمل الذي يقوم به والمعاملات التي ينجزها، ومستويات الإفصاح والشفافية في معالجة قضايا تلك الجهة أو ذلك الجهاز الحكومي هو ذلك المسؤول الوحيد والأوحد.
وخير مثال على ذلك تجربة المملكة مع الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية أيام اتفاقية "الجات" وقبل أن تتحول إلى منظمة رسمية. فقد أرسل عرض العضوية إلى المملكة في حينه، ولأن الموضوع ترك لوجهة نظر أشخاص في أجهزة حكومية ولم تسند إلى نظام مؤسساتي قادر على دراسة وتقييم قرار الانضمام أو عدمه بشكل منهجي ومهني بحت، فلم تُعط تلك الاتفاقية الاهتمام الذي تستحقه حتى تحولت الاتفاقية إلى منظمة، وكان هذا معلوماً للجميع أن اتفاقية "الجات" هي تمهيد لتحويلها إلى منظمة رسمية. وهو الأمر الذي جعلنا ندفع ثمنا باهظا للوصول إلى العضوية، والتي كانت أسهل من شرب الماء قبل أن تتحول من مجرد اتفاقية الجميع قادر على الدخول فيها وكانت تعرض للجميع دون شروط إلى منظمة لا بد من إقناع جميع الأعضاء الذين سبقوك كل على حدة لقبول عضويتك فيها، إلى الدرجة أن دولا لا تكاد تشاهد على الخريطة كانت عقبة في دخول المملكة، وهي الآن عقبة في دخول روسيا كذلك. هذا مجرد نموذج لكثير من القضايا وبالذات مع سرعة المتغيرات التي يشهدها العالم سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
ولو أخذت بعض التحديات على المستوى المحلي، فإن تجربة البنية التحتية للمدن من ماء وكهرباء وصرف صحي وطرق وسكك حديد ومطارات وخطوط برية وجوية ومستشفيات ومدارس، مثال صارخ على عشوائية التنفيذ، رغم أننا نمر الآن في الخطة الخمسية الثامنة، ورغم أن ذلك كان مسطورا في تلك الخطط التنموية، إلا أن التنفيذ والبيروقراطية وعقلية المسؤول قتلت كل ما هو على الورق، وهذه هي النتيجة والتي نراها في مدينة جدة والمناطق الأخرى وحجم الضغط على البنية التحتية في زيادة مستمرة، حيث إن الزيادة في الطلب السنوي على الكهرباء كما ذكر الرئيس التنفيذي السابق للشركة بأنه في حدود 8 في المائة إلى 10 في المائة سنويا في حين أنه في الدول الأخرى لا يزيد بالمتوسط عن 1 في المائة إلى 1.5 في المائة سنوياً. كذلك ذكر الرئيس التنفيذي الجديد أن حجم الاستثمارات المطلوبة لقطاع الكهرباء خلال العشرة أعوام القادمة لمقابلة الطلب المتزايد قد يتجاوز 150 مليار ريال. ألم يكن يعلم المسؤولون جميعهم الحكوميون عن نسب النمو السكاني في المملكة منذ سنوات طويلة؟ ألم يكن يعلم المسؤولون عن حجم التحديات في قطاع المياه مثلاً أم أنهم صدقوا أن لدينا نهر النيل الأبيض والأزرق يجري في ربوع بلادي مخترقاً الربع الخالي وصحراء النفود!؟ ألم يكون يعي المسؤولون حجم الحاجة إلى خدمات تتناسب مع النمو السكاني من طب وتعليم مثلاً؟
إذن لدينا مشكلتان رئيسيتان البيروقراطية القاتلة والمسؤول المتحكم بمصير الأمة. أعلم أن هناك بكل أسف دورا مغيبا للإعلام الاقتصادي، والذي يجب أن يكون مرآة حقيقية لكشف تلك البيروقراطيات ولكشف تلك التجاوزات. ولكن بكل أسف لم يصل مستوى الإعلام الاقتصادي إلى هذا المستوى لأن له حسابات مختلفة تمنعه من لعب هذا الدور الحيوي والذي نشاهد أفعاله البطولية في الأمم المتقدمة، على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. حيث لم يكشف الفضائح المالية الكبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية إلا الإعلام. ولكن السؤال ما هو الحل؟ هل نبقي على هذه الحال إلى أن يصبح الإعلام الاقتصادي في مستوى التحدي؟ إذن انتظر يا(....) إلى أن يأتي الربيع.
أعتقد أن جميع تجارب الدول النامية والتي أقربها إلينا سنغافورة وماليزيا توضح أننا في حاجة إلى مبادرة من قبل قادة الأمة لحل مثل تلك المشكلات، كما حُلت من قبل تلك الدول، حيث أكد خادم الحرمين في أكثر من مناسبة والتي كان آخرها كلمته أمام مجلس الشورى على هذا التوجه، حفظه الله. لذلك أقترح على مجلس الاقتصاد الأعلى والذي يقوده خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بنفسه أن يتم تشكيل جهاز تابع لأمانة المجلس يكون دوره الوحيد متابعة المواضيع الاقتصادية ذات الأهمية، والتي يقررها المجلس من خلال قراراته ووضع الأولويات لتلك المشاريع تحت التنفيذ بشكل يتناسق مع خطط التنمية المعتمدة ووضع جداول زمنية للتنفيذ بعد التنسيق مع الجهات الحكومية المعنية بتنفيذ تلك المشاريع (يعني وحسب مفاهيم القطاع الخاص مدير مشروع Project Manager، فنحن نعيش ورشة عمل ضخمة لا بد من إدارة فاعلة لضمان النجاح والتنفيذ السليم. ويكون عمل هذا الجهاز اليومي متابعة خطوات الإنجاز الحقيقي على المستوى الكلي وليس الجزئي ومن ثم رفع تقارير دورية عن معدلات الإنجاز والتأخير إذا كان هناك تأخير للمجلس الاقتصادي الأعلى. ويا ليت لو يكون هناك شفافية كاملة للمجتمع للمتابعة وللأخذ بيد الإعلام الاقتصادي في المتابعة الحقيقية وليس تقارير يكتبها المسؤول نفسه ويرسلها للإعلام للنشر بعد التنقيح والتجميل من قبل المسؤول بكلمات (سوف ونسعى) وما أدراك من كلمات أصبحنا نجترها بمرارة حقيقية.