معالجة المخاطر الأخلاقية في الصيرفة الإسلامية
استغرقت المؤسسات المالية الإسلامية منذ ظهورها في عمليات التمويل القائمة على البيوع الآجلة المولدة للديون في دفاترها "كالمرابحة، والاستصناع، والسلم، والإيجار المنتهي بالتمليك، وأخيرا التوّرق. وهي الصيغ التي تمثل نحو 80 في المائة أو أكثر من مجمل صيغ التمويل التي تعمل بها. بينما استحوذ على النسبة المتبقية التمويل القائم على عقود المشاركات "كالمضاربة، والمشاركة المتناقصة، والمشاركة المتتالية، والمشاركة بالنقاط ونحوها". وسبب إحجام المصارف الإسلامية عن توسيع عملياتها في مجال عقود المشاركات يعود بشكل أساسي لارتفاع مستوى المخاطر الأخلاقية التي تتحملها المصارف في مثل هذه العقود، فصيغ التمويل القائمة على الفائدة في المصارف الربوية أو على البيوع الآجلة في المصارف الإسلامية، تتضمن مخاطر أقل من صيغ التمويل القائمة على المشاركات. ذلك أن صيغ التمويل بفائدة وصيغ التمويل المبنية على البيوع الآجلة يكفي فيها لاتخاذ القرار الصحيح من قبل البنك الاعتماد على المعلومات التي يسهل الحصول عليها وهي تلك المتعلقة بشكل عام بملاءة العميل ومدى جودة الرهون العينية أو الضمانات الشخصية التي يقدمها العميل للبنك. في حين أن تمويل صيغ المشاركات يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك مثل مدى صدق العميل وأمانته ونواياه الحقيقية وهي أمور يصعب على المصارف التأكد منها.
وكثيرا ما يطرح التساؤل من قبل المهتمين بالشأن المصرفي عن كيفية تجاوز المصارف الإسلامية هذه المعضلة التي تحد من قدرتها على أداء دورها المأمول المتسق مع الفلسفة الأساسية التي انطلقت منها نظرية المصارف الإسلامية القائمة على وجوب توسيع العمل بعقود المشاركة، نظرا لفاعليتها في عمليات التنمية الاقتصادية واقترابها أكثر نحو المقاصد الشرعية لفقه المعاملات الإسلامية. والواقع أن هذه المسألة كانت محل اهتمامنا في مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز منذ سنوات خلت. وكنا قد توصلنا إلى بعض الترتيبات التي نعتقد أنها ستعمل على تخفيض مستوى المخاطر الأخلاقية في عقود المشاركات المصرفية، منها:
1 ـ تذكير العاملين في صناعة خدمات الصيرفة الإسلامية ابتداء، أن عقود المشاركات هي من عقود الأمانة، فهي لا تصلح مع أي عميل، ولكنها مناسبة للعملاء الذين تتسم حساباتهم بقدر عالٍ من الشفافية ومستوى مقبول من الانضباط والمراجعة المحاسبية الموثوقة، فتمويل عملية استيراد سيارات بصيغة المضاربة مع شركة شهيرة وكبيرة لاستيراد سيارات مثلا هو أقل مخاطرة من تمويل تاجر أقمشة صغير في وسط البلد.
2 ـ لا شك أن نجاح وانتشار صيغ التمويل القائمة على المشاركات سيعتمد كثيرا على سلامة وفاعلية البيئة القانونية السائدة. لذا فإن الأمر يقتضى سن القوانين المستمدة من روح الشريعة التي تحمي أطراف العقود، وتضمينها جزاءات مناسبة تدفع العميل إلى الالتزام بنوع السلوك المفترض، مثل الاشتراط أنه إذا جاءت الأرباح في عقد المضاربة أدنى مما توقعته دراسات الجدوى وبدرجة غير مقبولة لرب المال "المصرف"، ينقلب عقد المضاربة إلى عقد مشاركة بحيث يسمح لرب المال التدخل المباشر في الإدارة واتخاذ القرارات المناسبة، لكي يعرف المضارب مسبقا أنه لا جدوى من إخفاء الأرباح.
إن حاجة المصارف الإسلامية لقانون يحكم عملها في اقتصادنا أصبح ضرورة حتمية بعد التطور والنجاح والقبول الواسع الذي أصبحت تحظى به من قبل عملائها، وهذا ما أشارت إليه "الاقتصادية" في كلمتها الموفقة يوم السبت الماضي.
3 ـ بناء قاعدة معلومات تتوافر فيها البيانات كافة عن أرباب الأعمال من عملاء المصارف المحتملين الذين هم مظنة الانخراط في عقود المشاركات مع المصارف، وتصنيفهم بناء على تاريخ ونتائج التعامل معهم، بحيث يستفيد كل مصرف من تجارب الآخرين. وقد تؤدي شركة سمة دور فاعل في هذا الشأن، بحول الله تعالى.
4 ـ لكن ما هو أهم من كل ما سبق فيما يتعلق بمعالجة مسألة المخاطر الأخلاقية في عقود المشاركات، تبني فكرة خلق الحوافز Incentives لدى العملاء للإفصاح عن نتائج النشاط الذي تم تمويله. فكلما أمكن ترتيب وضبط هذه العقود ترتيبا داخليا "من داخل العقد"، لدفع أطرافها نحو السلوك المفترض والمرغوب فيه من حيث الأمانة، كان ذلك أجدى وأقل تكلفة حتى من الناحية الاقتصادية، لأن مثل هذه الضوابط تجعل للخيانة ثمنا باهظا يتردد المضارب قبل أن يركب صعابه. ومن هذه الضوابط المقترحة، النص في عقد المضاربة على أن المصرف سيتنازل عن أية أرباح تفوق النسبة التي توقعتها دراسات الجدوى الاقتصادية التي بُني عليها التمويل، أو أن المصرف سيتبنى صيغة التدرج في توزيع الأرباح بينه وبين العميل المضارب، فيكون للعميل نصيب أكبر من الأرباح كلما زادت الأرباح المتحققة عما توقعته دراسة الجدوى الاقتصادية.
إن من شأن ترتيب كهذا أن يشجع العميل على الإفصاح ويدفعه لبذل جهد أكبر ويبعده عن المراوغة والخداع. وبهذه الطريقة يعلم العميل أنه سيستفيد من كل جهد إضافي سيبذله في إدارة المشروع، فلا يبقى لديه سبب للتهاون أو حاجة لإخفاء جزء من الربح. من ناحية أخرى، ليس في هذا الإجراء خسارة على المصرف، لأن إثبات تحقق نسبة تزيد على المتوقع ليس بالأمر الهين.
بعد نحو أربعة عقود من العمل المصرفي الإسلامي، ستكون نقطة الانطلاق الكبرى للبنوك الإسلامية لتحقيق فلسفتها الأصيلة في أن تكون مؤسسات مشاركة فعلا في التنمية الاقتصادية الحقيقية، هي يوم تنجح في تطوير قدراتها لممارسة عمليات التمويل بالمشاركة.