رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


قراءات في المستقبليات الاقتصادية

بطبيعة الحال ومن خلال عنوان هذا المقال يتضح أن الموضوع بمثل هذا الحجم لا يمكن أن تتم تغطيته من خلال مقال يمثل وجهة نظر كاتبه، خاصة وأن كل وجهة نظر تخضع لخلفيات ومعلومات صاحبها. ولكن وبسبب فقدان دور واضح لمراكز الدراسات الاستراتيجية في المجال الاقتصادي والأدبيات الاقتصادية على وجه التحديد التي تحاول قراءة المستقبل، بهدف الاستعداد له والعمل على مواجهة التحديات، والتي لم تعد تأتي من جهة واحدة ولكنها من مختلف الجهات، وكذلك العامل الداخلي، وهو أيضا لا يقل أهميةً وتأثيراً من العامل الخارجي. وأهمية بحث مستقبل الأمة والوطن لا يكون على مستوى التطورات والتغيرات المحلية رغم أهميتها، ولكن على مستوى التأثير الخارجي، والذي أصبح مؤثرا في اللحظة نفسها التي يحدث فيها في أي قطر من أقطار العالم ذات التأثير الدولي. إذاً الخارجي والداخلي أصبحا متساوين في التأثير على اقتصاديات الدول بغض النظر عن حجم تلك الدول حتى الاقتصاد الأمريكي أصبح مفتوحا على التأثيرات الخارجية، والذي منذ نشأت الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تشتهر بقدرتها على أن تنعزل عن العالم.

وعليه وبسبب هذا الإهمال في وجود مراكز دراسات متقدمة، فإننا سوف ندفع ثمنه مضاعفا، ويكفي أن أشير إلى حادثة بسيطة واحدة للتدليل فقط عن الثمن الذي ندفعه نتيجة أننا نعيش ونتصرف وحتى نتخذ في كثير من الأحيان قرارات تعتبر استراتيجية بناء على ردة فعل وليست نابعة من خطط واضحة تأخذ في الاعتبار جميع العوامل المؤثرة داخليا وخارجيا ليست القائمة ولكن المتوقعة في المستقبل. ولكن وبسبب عدم وجود مصنع للأفكار وللدراسات التي تعطي الصورة والقراءة لما سوف يكون عليه المستقبل الاقتصادي، والذي هو في حقيقة الأمر متغير شكلاً ومضموناً كما هي السياسة بكل التطورات التي تتشكل الآن منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى الآن. وما يحدث منذ عقدين من الزمان من أحداث كثيرة وأولها الحروب المصطنعة إلا نتيجة التشكل الذي يحدث في الجانب الاقتصادي في العالم، حيث هناك الآن حالة حمل وننتظر الولادة لرأسمالية جديدة بمفاهيم ونظريات جديدة سوف تؤثر فينا ولن نستطيع التأثير فيها إذا ما اعتمدنا على النفط وحده. ونقرأ الكثير من الأدبيات الحديثة حول هذا التشكل للقرن الواحد والعشرين. أقول للتدليل على أهمية قراءة المستقبل إن كل الأحداث، والتي نشاهدها الآن على الساحة الدولية، ورغم أن السيناريو لم يسر بالضبط حسب المأمول والمخطط له، ولكن كله كان مجال بحث ودراسة قبل حدوثه بسنوات، إذا كانت هناك خطط وكان هناك تنفيذ لهذه الخطط.

وعودة إلى قراءة المستقبليات الخاصة بالشأن الاقتصادي فإِن من أضعف الإيمان إذا لم نتمكن من إيجاد مراكز دراسات قوية، أن يكون لدينا ترجمة ومتابعة لما يكتب ويناقش في الدول المتقدمة حول هذا الموضوع والتوجهات الدولية، وكم كنت أتمنى ونحن من الدول التي تتمتع بعدد كبير من حملة الشهادات العليا وبالذات الدكتوراه، أن يكون هناك اهتمام من حملة تلك الشهادات الأعزاء للقيام بهذا الدور بدلاً من إعطاء المحاضرات الأكاديمية البحتة على طلابهم وطالباتهم في الجامعات. وأن يساعدونا على قراءة ما يحدث في الأوساط العالمية، سواء من خلال الاطلاع أو من خلال التعاون المباشر كأكاديمي مع مراكز الدراسات المتقدمة في الشؤون المختلفة، وخاصة الاقتصادية، وتوفير خلاصة تلك الدراسات والتوجهات بعد ربطها بالشأن المحلي للقطاعات المختلفة.

وما أستطيع التأكيد عليه والجزم به أن كل ما يصدر من الغرب المتقدم من تصريحات سياسية أو اقتصادية فهي لا تأتي من فراغ. بل بعد دراسات واستشارات، حتى أن ما حدث في الفترة الماضية من تصريحات للبابا أو لبعض السياسيين حول الإسلام ونبي الإسلام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، ورغم أن الكثير من المفكرين العرب والذين تحدثوا عن تلك التصريحات وكأنها غلطة، وأؤكد لهم وبكل تواضع أنها لم تكن غلطة، ومن يعرف تاريخ البابا العلمي يستطيع أن ينفي ذلك، كما أنها لم تكن حديثا عابرا أو تصريحا، وإنما ورقة عمل مقدمة أمام حشد من الباحثين والعلماء في مواضيع ربما لا يفهمها إلا النخبة حول علم اللاهوت "الكلام" والعلاقات المتشابكة بين المجتمع والدين ومستقبل أوروبا في هذا الخصوص. كما أن التصريحات السياسية سواء لبوش أو مستشارة ألمانيا حول الإسلام، وكما حاول العديد التبرير بأنها غلطة أو غباء أقول هي ترجمة مباشرة للدراسات والبحوث، والتي هي متوافرة وكتبت قبل أن يصرح بها بوش أو غيره منذ سنوات، ونعرف أن آليات صنع القرار السياسي لا تنبع في اليوم واللحظة، وإنما بعد أن تطبخ على نار هادئة في دوائر صنع القرار والمستقبل السياسي للدول، والتي على رأسها مراكز الدراسات والبحوث، والتي هي من يقرأ المستقبل ويحاول تفكيك رموزه، ومن ثم تقدم للدوائر الأصغر فالأصغر حتى تصل إلى متخذ القرار الرئيسي، والذي عادة ما تكون التصريحات بداية بالونات اختبار للسياسية الجديدة لمعرفة الفعل وردة الفعل وتحديد سقف التحرُّك الممكن في الفترة الحالية.

آسف للدخول كثيراً في السياسة، فهي ليست صنعتي ولكن هي الأقرب لتوصيل فكرة أن الأمور الاقتصادية يجب أن تكون نابعة من قراءة المستقبل والشكل والفلسفات التي سوف تبنى عليها المفاهيم الاقتصادية الحديثة، وحتى نكون أكثر تحديدا، نجد أن هناك الآن دراسات علمية حول علاقات التضخم والانكماش بأسعار الفائدة، حيث وجدت بعض الدراسات أن النظريات السابقة لم تعد تعطي إجابات واضحة على بعض الأحداث الحالية، وبالتالي السؤال: هل المسلمات القديمة أصبحت تحت المجهر ويمكن لها أن تكون عرضة لأن تكون نظريات بالية لأن العوامل المؤثرة على الاقتصاديات الحالية أصبحت أكثر تعقيدا؟ كذلك هناك سؤال يطرح حول السياسات النقدية والمالية وهل يمكن أن تحكم حركة الاقتصاديات المحلية مع وجود عوامل تأثير خارجية أكبر من قدرة الدول على السيطرة عليه؟ كما يوجد سؤال آخر عن إمكانية وجود نكسة في العولمة من خلال سعى العديد من الدول إلى صياغة سياسات حماية غير معلنة، لأن ذلك التوجه قد يتعارض مع السياسات الداخلية سواء فيما يخص الشأن الاجتماعي والعمالة أو التوجه السياسي الداخلي؟

وختام الموضوع يجب أن نكون على اطلاع كامل بما يحدث داخليا وخارجيا، وضرورة أن نستعد لكل الاحتمالات والتطورات المحلية، وإلا كنا كمن تاه في صحراء قاحلة لا ماء ولا كهرباء. التحديات المحلية كبيرة للغاية من سكان ومتطلبات معيشتهم من ماء وكهرباء وسكن والحدود الدنيا لكرامة العيش في مقابل خطط خارجية لن تكون في صالحنا إذا ما نفذت كما نقرأ عنها. والدول الكبرى تتصارع على حماية مصالحها ونحن جزء من تلك المصالح.

* محلل مالي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي