النفط .. لعبة الغالب والمغلوب!
في خلال فترة وجيزة جداً تمكن النفط أن يتبوأ زعامة مصادر الطاقة العالمية وأصبح العمود الفقري لجميع مصادر الطاقة ودخل في معظم الصناعات كمادة أولية، ويتوقع أن يستمر في تلك الصدارة إلى حين نفاده في المستقبل المنظور، وهذه هي المصيبة، أي حتمية النفاد. فاستهلاك مخزون النفط في تزايد مطرد ويتزايد من فترة إلى فترة بمتوسط جاوز 1.5 في المائة سنوياً، مع ارتفاع مستمر في أسعاره التي ارتفعت إلى أربعة أمثال ما كانت عليه عام 2001، وسيستمر في تلك المعدلات في السنوات المقبلة. وتعتبر تلك الزيادة في الاستهلاك العالمي للنفط كبيرة وخطيرة جداً على الصعد: السياسي، الاستراتيجي الدولي، الإقليمي، والمحلي وبدأت لعبة غالب أو مغلوب, أي Zero Sum Game بين المستهلكين للنفط وهم في غالبيتهم من الدول العظمى وبين الدول المنتجة والمصدرة وهي في غالبيتها دول صغيرة متخلفة سياسياً واقتصادياً وتعليمياً عن تلك الدول المستهلكة للنفط. ومازالت هذه اللعبة, أي الغالب أو المغلوب, بين هاتين المجموعتين غير المتوازيتين أو المتجانستين مستمرة في تلك الغلة أو السلعة التي قد حددت الندرة لعبتها أصلاًً وهي Negative Sum Game أي جميع الدول مغلوب بعد نفادها.
ولكن كون أن المستهلكين للنفط في غالبيتهم من الدول العظمى الصناعية الذين يتزعمون العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، كالولايات المتحدة التي تستهلك ربع (25 في المائة) الاستهلاك العالمي، وتستهلك أوروبا (18 في المائة) أي نحو الخمس من الطلب العالمي والصين تستهلك نحو العشر أو بالتحديد (8 في المائة) من الطلب العالمي على النفط فلقد تبلورت سياسة الدول المستهلكة للنفط بشكل جماعي في مجال الطاقة على عدد من المكونات الأساسية تبدأ من ضمان تزويد منتظم للنفط وبأفضل تكلفة مروراً بأخذ الحيطة وذلك بالسعي المتباطئ إلى تنويع مصادر الطاقة، أما الدول المصدرة للنفط وبحكم طبيعة تلك الدول وانتمائها إلى العالم الثالث، فإضافة إلى أنه لا توجد لديها أي من الاستراتيجيات الفاعلة في مجال الطاقة على الرغم من نمو صناعتها بشكل مطّرد وتعاظم مردودها على مدى العقود الماضية إلا أنه لم تتم مواكبة تلك التطورات في الهياكل الإدارية والفنية ولم تطور هيئاتها المشرفة على قطاع النفط في تلك الدول، ناهيك عن الحقيقة المرة وهي عدم تبلور حتى أي سياسة فاعلة لدى تلك الدول للقضاء على ثالوث الجهل والفقر والمرض الملازم للدول الفقيرة النامية والمهمشة على المستوى الدولي، على الرغم من الإيرادات المالية العظيمة لتلك الدول من جراء بيع نفطها الذي أدخلها في دوامة النمط الاستهلاكي واستثمار أموال باهظة لرفع إنتاج تلك الدول من النفط إلى مستويات قياسية تفوق في معظم الأحيان احتياجاتها المالية، وسيطرة السلوك الاستهلاكي، وارتفعت معدلات التضخم المالي ما أدى إلى نتائج سلبية كبيرة على مكامن وآبار النفط وكذلك على اقتصادياتها الوطنية، هذا بشكل عام.
من هنا فلو تأملنا قليلا كمجتمع حباه الله بنعمة النفط، سنجد أنفسنا أمام تحديات تاريخية صعبة لم نتخذ التدابير اللازمة لمواجهتها إلى الآن، والتحدي الكبير الذي يواجه تلك الدول المصدرة للنفط، ومنها المملكة التي تملك أكبر احتياطي في العالم أو ربع الاحتياطي العالمي المؤكد، وتملك ثالث أكبر احتياطي غاز في الشرق الأوسط وأكبر منتج ومصدر للنفط، يبقى التحدي هو أن تتبنى استراتيجية نفطية يكون مضمون قراراتها يتناسب مع المنفعة الاقتصادية والاجتماعية للمملكة كدولة منتجة مع تعظيم دالة النمو الاقتصادي تحت المحددات المعروفة للمصدرين في تأمين حقهم من السوق ومكانتهم في الاحتياطي النفطي والعالمي وفائدته من العملية الإنتاجية التي يقوم بها تحت ظروف المحددات الجيولوجية والاقتصادية للاحتياطيات النفطية نظراً لأن طبيعة صناعة النفط واطراد ازدهارها الاقتصادي وتقدمها العلمي والاقتصادي يوما بعد يوم ينتج عنه حدة في تعارض مصالح كثير من أطراف المعادلة أهمها بين المنتج والمستهلك, وهنا تكمن الأهمية القصوى في الحذر الشديد حين التعامل مع مورد طبيعي محدود ناضب كالنفط والغاز المصاحب (نحو ثلثي احتياطي الغاز في السعودية يعتبر غازا ذائباً في الزيت الخام) الذي من البديهي أن الاستفادة منه بتكثيفه ومعالجته واستعماله محلياً وإحلاله محل الزيت يكون أجدى اقتصادياً وبيئياً من إهداره وحرقه.
فالنفط بشكل عام يعتبر موردا نادرا وثروة ناضبة غير متجددة تنتهي باستنضابها، فهو بذلك رأسمال وطني عام موقوف تعتبر عائداته إيرادات رأسمالية عامة غير متكررة ويشكل أساس الدخل القومي والحكومي الذي يمثل دخلا ناتجا من جراء بيع أصل ناضب. كل هذا يحتم علينا تمييز هذه الثروة وعائداتها عن مثل الإنتاج الزراعي المتجدد أو الصناعي القائم على أساس تراكمي. وباعتبار أن لدى المملكة أكبر احتياطي للنفط وهي أكبر دولة منتجة ومصدرة للنفط الخام، وأنها تعتمد على واردات النفط اعتماداً شبه كلي، فإنه يجب علينا إيجاد نظرة شاملة عن إنتاجه بمستويات أقل من الطاقة القصوى في الإنتاج كما هو الآن، والحفاظ عليه، وإن كانت لا تزال توجد كميات كبيرة من النفط لدى المملكة، إلا أن تلك الاحتياطيات هي مخزون محدود تنتهي باستنضابها، وتدل الإحصائيات الأكيدة على أن وتيرة الاستهلاك العالمي سينتج عنها أن جميع الاحتياطيات العالمية بما فيها احتياطيات المملكة فإنه من المتوقع أن تستنفد في خلال مدة لا تتجاوز 70 عاماً فقط. أي أن أولادنا من المواليد الحاليين سيعيشون في أواخر حياتهم من دون نفط أمض وأدهى من دون هذه العائدات النفطية نظراً لنضوب النفط حسب الاستهلاك العالمي الحالي.
ومن حيث إن النفط ثروة ناضبة أي محدودة، فهو بذلك رأسمال وطني عام موقوف يوجب العمل على استثمار عائداته الحالية والمستقبلية بشكل يحفظ لأولادنا حقهم في هذه الثروة، فضلاً عن عدم حرمان جيلنا الحالي من حق الانتفاع به وبوارداته ولكن باستثمارها في أصول متجددة تسهم في تحقيق التنمية المستدامة. فحق أولادنا حق ثابت في النفط وعائداته، وتأسيساً على ذلك فإن التحدي الذي يواجهنا حالياً ومستقبلياً يتطلب بادئ ذي بدء التعامل بكفاءة وحكمة مع حركة العولمة بأبعادها المختلفة والتحديات التي تواجهنا مع المستهلكين على الصعيد الخارجي، وعلى الصعيد الداخلي الشفافية المطلقة والعمل بأقصى حد ممكن للقضاء على ثالوث الفقر والجهل والمرض وكذلك المشاركة الشعبية وتنميتها، ليس فقط على بعدها السياسي فقط بل لتشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعيـة والثقافية وغيرها، فالمنتج لقوة العمل الوطنية هو مدى إمكانية التعامل بشفافية كاملة مع هذه الثروة الوطنية والعمل على إيجاد وتحديد استراتيجية أو رؤية وطنية شاملة وبعيدة المدى ويسهم في بلورتها جميع شرائح المجتمع وفئاته وقواه الفاعلة السياسية والاقتصادية والأكاديمية، لتركز عليه جهودها وتعبئة قدراتها لمواجهة هذه التحديات وتحقيق الغايات والأهداف وبلورة مشروع وطني متكامل في إطار استراتيجية بعيدة المدى محددة الأهداف والغايات تأخذ في عين الاعتبار متغيرات النفط الرئيسية وهي عامل الندرة التي تؤثر فيه كوحدة اقتصادية لتحقيق رؤية اقتصادية واجتماعية شاملة ومحددة بنهاية المدة الزمنية لنضوب النفط مع تحويل الوفورات المالية الناجمة عن بيعه إلى موارد مالية متنوعة وبناء مقومات تنموية مستدامة وذات مردودات مستديمة.
وسنرى غدا ماذا نحن فاعلون، وإن غدا لناظره قريب.
استراتيجي وخبير في شؤون الطاقة
[email protected]*