التنمية في ماليزيا .. تساؤلات مشروعة
<a href="mailto:[email protected]">Atrairy@Ksu.Edu.SA</a>
في طريقي إلى نيوزيلندا في مهمة رسمية خلال الصيف المنصرم توقفت في ماليزيا بغرض الاستراحة من عناء السفر الشاق والذي يصل إلى 11 ساعة طيران بين كوالالمبور وأوكلاند عدا الساعات السابقة واللاحقة للسفر في المطارات وفي الطريق إليها. وكانت آخر زيارة لماليزيا قبل ثلاثة عشر عاماً فوجدتها فرصة كي أتعرف على التغيرات التي حدثت خلال هذه الفترة في جوانب التنمية المتعددة. وانطلاقاً من المفهوم الشامل للتنمية والذي لا يقتصر على عنصر دون آخر رأيت مناقشة موضوع التنمية في ماليزيا والذي كثيراً ما يستشهد به الكتاب والمثقفون والمفكرون على أساس أنه أنموذج حي على التغيرات التي تحدث للأمم متى ما توافرت الإرادة والإدارة الجيدة وخطط تخطيطاً جيداً ووفرت الإمكانات اللازمة البشرية والمادية.
أول ما وطئت قدماي مطار كوالالمبور لفت نظري التغير الذي حدث على المطار حيث سعة المطار الحالي مقارناً بالمطار القديم الذي يشابه مطار الظهران سابقاً, كما لفت انتباهي وجود قطار لنقل المسافرين من مبنى لآخر بالإضافة إلى المطاعم والأسواق داخل المطار والنظافة والترتيب وكثرة المسافرين مع الانتظام والهدوء. أما داخل المدينة فيلفت الانتباه المباني الشاهقة والأسواق الضخمة والزحام في الشوارع والأسواق وكثرة السياح وكثرة المطاعم والمقاهي على الشوارع العامة وداخل الأسواق إضافة إلى كثرة المنتجات الصناعية المحلية رغم وجود صناعات مستوردة كثيرة. ومع ما يلفت الانتباه في الجانب المادي سواء في المطار أو المباني أو الطرقات طرحت على نفسي سؤالاً هل تحقق مفهوم التنمية الشاملة في ماليزيا؟ والمقصود بالتنمية الشاملة التطور والنماء الذي يطاول الجوانب المادية والبشرية وفي المجالات كافة من تعليم وصحة, وزراعة وصناعة واتصالات ومواصلات وقيم, وثقافة ومشاعر واتجاهات وفكر وسلوك عام وخاص حسب مستوى الفرد أو المجال الذي يعمل فيه وبغرض المقارنة بين ما رأيته في أول زيارة وما وجدته في الوقت الحاضر, وحتى أدرك التحولات التي طرأت , رأيت من اللازم الحركة وارتياد الأسواق وزيارة المعالم وقراءة الصحف والحديث إلى الناس في الفندق والشارع والسوق وذلك بغرض استكشاف التغيرات التي حدثت ورصد التحولات في الجوانب كافة. ولعله من المناسب الإشارة إلى أن التركيبة السكانية في ماليزيا خليط من الملاويين وهم السكان الأصليون وهم الأكثرية والصينيون والهنود وأعراق أخرى هاجرت إلى ماليزيا. وقد لفت نظري نزعة العرق الصيني إلى إثبات تميزه ووجوده المستقل عن الوطن وبمعنى آخر محاولة إثبات هوية متميزة داخل الوطن ذات ثقافة ولغة وقيم وطعام مختلف والشواهد على هذا كثيرة ولعلي أسوق أمثلة من المواقف التي تؤكد هذا التوجه أو هذه النزعة, إذ صادف أن سائق السيارة التي نقلتني من المطار إلى الفندق من أصل صيني فقرأت لوحة على الطريق مكتوبة بالأحرف اللاتينية لكنها بكلمات ومعان ملاوية فسألته عن معناها فبادر بالقول هذه لغة المسلمين ثم أخبرني بمعنى العبارة ولم أعلق على كلامه رغم أنه أثار انتباهي فهل توجد في البلد لغات متعددة؟ وهل توجد للمسلمين لغة ولغيرهم لغة ؟ أما الموقف الثاني فهو أن دليل الفندق مكتوب باللغة الإنجليزية حروف وكلمات ومعان, إضافة إلى اللغة الصينية بينما اللغة الملاويه والتي يفترض أن تكون هي الأساس فلا وجود لها في الدليل رغم أنها موجودة في المطار وأماكن أخرى, لكن لزمت الإشارة إلى هذه الملاحظة. كما لفت انتباهي في دليل الهاتف وجود تعليمات في كيفية معرفة الكنائس وعناوينها والخدمات الكنسية, بينما لا توجد مثل هذه التعليمات بشأن المساجد رغم أن البلد تصنف على أنها بلد إسلامي لأن المسلمين يشكلون أكثرية السكان كما أن ماليزيا بلد فاعل في رابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي حيث عقد مؤتمر قمة المنظمة في ماليزيا أثناء حرب العدوان الصهيوني على لبنان. أما الموقف الثالث فهو حديث جرى بيني وبين رجل سألته عن مكان من الأماكن فصادف ذهابه إلى المكان نفسه فدار بيننا الحديث وعرف نفسه على أنه صيني ماليزي رغم أنه يعمل في العلاقات الخارجية في وزارة الخارجية حسب ما أفاد وفي هذا ما يلفت الانتباه فهل يمثل هذا الشخص ماليزيا أم يمثل الصينيين الموجودين في ماليزيا ؟! أما الموقف الرابع فكان في المطار وحيث كنت جالساً في أحد المطاعم انتظاراً لرحلة السعودية إلى الرياض وكان المطعم مكتظاً فاستأذنني ثلاث سيدات للجلوس معي ومشاركتي الطاولة وبعدها حدث حوار بيننا, من أين؟ وأين ذاهبون؟ وكان الجواب أنهم صينيون ماليزيون وأنهم ذاهبون إلى إسبانيا بغرض الحج وأنهم يذهبون سنوياً لزيارة الأماكن المقدسة المسيحية في أوروبا وسبق لهم زيارة القدس. هذه المواقف وغيرها تشير إلى أن هوية مستقلة تتشكل داخل ماليزيا وربما تتباين مع الهوية الأساسية أو هوية أهل الأرض الأصليين مما يثير التساؤل حول هل الحكومة الماليزية والشعب الماليزي يدركون هذا الأمر ويدركون خطورته؟ إن هذه الشواهد مع ما لاحظته من وضوح سيطرة العنصر الصيني على الأنشطة التجارية والاقتصادية, إضافة إلى تغيرات أخرى ذات علاقة بالدين والقيم كالنوادي الليلية والبارات والموسيقى الصاخبة وأماكن المساج وما قد يصاحبه وذلك حسب ما يعرضه أصحاب هذه الأماكن الذين يزعجون المارة في الشوارع وعلى الأرصفة أقول كل هذه تحتاج إلى إعادة نظر في موضوع التنمية لأني أؤمن أن التنمية المادية رغم أنها تحدث تغيراً في سلوك الأفراد وتصرفاتهم وتنال من قيمهم إلا أني أعترف بأني لم أتوقع أن هذه التغيرات قد حدثت في ماليزيا خلال هذه الفترة وبهذه السرعة. إن قلب المدينة النابض اقتصاديا والذي يمتد من شارع العرب وشارع السلطان إسماعيل ويصل الأبراج التوائم لم أر فيه مئذنة واحدة رغم أهمية ذلك حيث التواجد البشري من سكان وسياح ومرتادي أسواق علماً أنه توجد مصليات داخل الأسواق على شكل غرف لكن هذا ليس المتوقع في بلد إسلامي نشط فوجود مسجد في هذه المنطقة مهم بل ضروري خدمة للمصلين وإظهارا لهوية البلد الإسلامية والتي يفترض المحافظة عليها أكثر فأكثر في خضم التنمية المادية الهائلة.
لقد استرعى انتباهي وبصورة واضحة جداً أن خدمات التنظيف في الأسواق لا يقوم بها إلا نساء يلبسن الحجاب وبصورة وثيقة مما قد يعني, وبصورة رمزية أن هذه المهنة حكراً على المسلمين أو أن المسلمين يفترض ألا يزاولوا غيرها, وأرجو أن أكون مخطئاً في انطباعي هذا. ومما يعزز ما أعتقد أنه خطر يحدق بماليزيا ما ورد في جريدة New straits times في يوم الإثنين 28 آب (أغسطس) 2006, حيث ورد في إحدى مقالاتها أن عضو رابطة الصينيين الماليزيين وونق ني شي wong nai chee قال في لقاء للرابطة إن ماليزيا ليست دولة إسلامية وعلى رابطة الصينيين الماليزيين عدم دعم إعلان ذلك, لأن إعلانها دولة إسلامية ودعم هذا التوجه سيجعل غير المسلمين يحرمون من حقوقهم, وأردف قائلاً ومع أن الدين الرسمي لماليزيا هو الإسلام إلا أنها دولة غير إسلامية وإلا لما اعتبرت مناسبات واحتفالات مثل الكرسمس, والوياك احتفالات شعبية ورسمية. إن مثل هذا القول الذي يعرض وبصورة علنية وأمام الجماهير يدل دلالة قاطعة على أن حركة شعبية داخل العرق الصيني تتحرك ضد الانتماء الإسلامي لماليزيا. أختم بعبارة وردت في كتاب الدكتور محاضر محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق المعنون "العولمة والواقع الجديد" حيث يقول إن حلول العولمة لا يعني أن نجلس جانباً مكتوفي الأيدي بينما يفتك بنا الآخرون. فهل ما حدث في ماليزيا هو من آثار العولمة التي عجز الماليزيون عن مواجهتها وبقوا مكتوفي الأيدي؟!!