رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ما الذي ينشده السعوديون من السفر إلى الخارج؟

قديما قال الشاعر العربي في معنى السفر:
تغرّب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
فقد لخص الشاعر العربي الفوائد التي يمكن التغرب والسفر في طلبها واكتسابها في خمس فوائد, هي: تفريج الهم, كسب المعيشة, العلم, الآداب, وصحبة الأماجد, وهي الفوائد الحقيقية التي كان يعود بها, أو ببعضها, السفر على صاحبه في عصر الشاعر والعصور المتاخمة له, التي قليلا ما يشد فيها الرحال لغير سبب من تلك الأسباب.
ولهذا نجد تاريخ العرب ذاخرا بالحديث عن الرحلات وما فيها, وما يصاحبها من اكتشافات ومعرفة وغنى وأمجاد, وكثير من العلماء والأدباء والشعراء العرب لم يُعرفوا ويشتهروا ويذيع صيتهم وتتفتح مواهبهم وتظهر إبداعاتهم واختراعاتهم إلا من خلال السفر والترحال, والانتقال في أرض الله الواسعة, فضلا عن أن السفر كان يتيح لهم فرصة مصاحبة الأخيار من الرجال والاحتكاك بهم, والإفادة من علومهم وتجاربهم وخبراتهم. ويؤدي السفر بالتالي إلى تلاقح الأفكار والثقافات وتمازجها وانصهارها, وهو ما كان يقود إلى تضافر الجهود وقيام مراكز ودور العلم وشيوع الثقافات وتقارب الأمم وتآلفها وتضييق الخلافات وإطفاء النعرات وأسباب الفتن والحروب. هذا في الماضي, أما اليوم فقد اختلفت أهداف السفر ومقاصده وأغراضه باختلاف الزمان والأحوال والظروف, واهتمامات الناس واحتياجاتهم, وحلت أهداف أخرى مثل البحث عن الترفيه واللهو والمتعة والتسوق محل الأهداف التي عناها الشاعر, مثل كسب المعيشة, والعلم وصحبة الأماجد, ولم تعد هذه العوامل هي التي تحدد اتجاهات الناس في السفر, فانقلبت الأحوال وصار السفر مجالا لبعثرة الرزق وليس كسبه, ولم يعد العلم والآداب أحد مطالب السفر, وحتى صحبة الأماجد لم تعد من الاهتمامات, أما ما يشد الناس إلى السفر اليوم فهو إلى جانب بعثرة المعيشة البحث عن وسائل اللهو والمتعة وصرف الوقت فيما لا يفيد, حتى عامل الطقس الذي يدعي الكثيرون أنه يدفعهم إلى السفر لم يعد الدافع الرئيس بدليل أننا نرى معظمهم يتجه إلى بلدان ليست أفضل وضعا من حيث الطقس من المناطق التي أتوا منها داخل المملكة.
في كل مرة أسافر فيها خارج المملكة أجعل أحد اهتماماتي محاولة اكتشاف ما ينشده إخواني المواطنون من السفر, ويدفعني ذلك إلى التأمل في كل ما يقع أمام ناظري من تصرفات وسلوكيات يعبر بها كل منهم بأسلوبه الخاص, عن طريقة استمتاعه بالسفر, واستفادته منه. وكما ذكرت عند الحديث عن العوامل التي تدفع الناس إلى السفر, فإنه باستثناء الأعمال التجارية, نجد أن تلك العوامل لا تتعدى المتعة والترفيه والتسوق, أما عامل الطقس فلم يعد المحرك الأوحد للسفر. وأما الترفيه والمتعة فيختلف النظر إليهما كعاملي جذب, تبعا لنظرة المسافر إليهما, إذ هناك من يرى أن المتعة تتركز على التسوق, فلا يكاد يرى شيئا في البلد الذي اتجه إليه غير الأسواق يتجول ويأكل ويشرب ويقيم فيها ليل نهار, ولا يفارقها إلا وقت النوم, حتى وإن كان آتيا من أكثر المدن السعودية غنى بالأسواق. وهناك من يرى أن المتعة تكون في النوم فلا يكاد يرى شيئا من معالم البلد الذي يزوره إلا ما قد يراه في أحلامه وهو نائم. وأما الطقس والطبيعة فإن المستمتعين بهما هم القلة من بين المسافرين, ومع ذلك نراهم يتجهون في أسفارهم غالبا إلى العواصم والمدن المزدحمة, التي يتلوث طقسها وهواؤها بمخلفات المصانع وعوادم السيارات, وقليلا ما نرى أحدا منهم ينعم بقضاء إجازته في الأماكن الريفية الهادئة ذات الطبيعة الخضراء الغنية بمجاري المياه والأزهار وتغريد الطيور.
ولو أخذنا مدينة باريس بوصفها المدينة الأولى التي يقصدها شريحة كبيرة من المواطنين خلال فصل الصيف, وحاولنا التعرف على الأسباب التي تجذبهم للسفر إليها لما اهتدينا إلى سبب واحد يجتمعون عليه, عدا التكدس في أشهر شارع في القارة الأوروبية وهو شارع "شانزليزيه", يتدفقون إليه كل مساء وكأنهم موكلون من قبل بلدية المدينة بذرعه جيئة وذهابا, أو متعهدون بتشغيل وإعمار مطاعمه ومقاهيه التي تخنق أرصفته, إلى ساعات الصباح الأولى من كل يوم.
والغريب أنك تلاحظ إذا سرت في هذا الشارع في ساعات الصباح الأولى أنه لن تقع عيناك إلا على الأجانب والوفود السياحية من كل حدب وصوب, أما في المساء فيكاد كل شيء يكون حكرا على العرب وغالبيتهم من السعوديين, المطاعم, المقاهي, والأرصفة, والغريب أنهم لا يكتفون بالجلوس في المقاهي كلما تعبوا أو عنّ لهم الجلوس، بل يقومون بحجز معظم الطاولات لكي تكون حكرا عليهم حتى عنّ لهم الجلوس، وقد لمحت كثيرا علامات التذمر والاستياء بادية على وجوه الأجانب إزاء هذه الممارسات التي لم يألفوها، ويعدونها تعديا على الحرية العامة في اختيار المقهى والمكان الذي يجلسون فيه، فضلا عن أنه لا تجهلهم الفئة التي تقوم بذلك وهم نحن!!
لقد حاولت استنباط أي فائدة تعود على مرتادي ذلك الشارع بشكل يومي وعلى مدى ساعات الليل فلم أجد، رغم أنني أحسنت الظن حين فكرت أن المقصود هو التريض بالمشي، غير أن ذلك لم يثبت لأن المشي الذي يمارسونه هو أقرب إلى التسكع والتبختر بملابس لا تمت إلى الرياضة بصلة!
فضلا عن أن الغالبية منهم يعودون في النهاية إلى بلدهم بأوزان زائدة في الأبدان والأمتعة ولم يصدق أيضا حدسي حين ظننت أن ما يستقطبهم هو التسوق حين اكتشفت أنه لا توجد مراكز تسوق في هذا الشارع، وحتى لو وجد شيء منها فإنها تغلق عند السابعة مساء، وهو الموعد التقريبي لنزول مواطنينا نساء ورجالا، أفرادا وجماعات، إلى ذلك الشارع، الذي يجعلك تمل منه، رغم جماله، بمجرد ترددك عليه بضع مرات!!.. فما بالك بأناس يداومون فيه، وكأنهم يؤدون عملا أو واجبا مطلوب منهم تأديته وتقديم تقارير يومية عنه!.
لقد أخذني التفكير أخيرا إلى مظنة أن الدافع إلى هذا الارتطام والتدافع بالأجساد هو الفرصة التي يتيحها لهم هذا التجمع الفريد لرؤية بعضهم متجردين من بعض الحجب التي حلت محلها حجب من نوع آخر مما تشتهر به هذه المدينة، التي سخر الله لها جيوب فئة كبيرة من مواطنينا فتنوا بكل ما فيها حتى لو لم يكن هو أفضل ما يجدونه!.:
نعم إن ذلك الشارع لا يخلو من تنسيق وجمال، لكن ما يفسد جماله هو هذا التكدس الهائل للبشر فيه يأكلون وهم يمشون أو على الأرصفة، ويتركون المخلفات وراءهم حتى غدت القذارة سمة من سماته، ما اضطر بلدية المدينة إلى تشغيل معدات الكنس والتنظيف باستمرار بين أرجل المارة على مدار الساعة.!
أما المطاعم والمقاهي، وهي الرابح الأعظم، فجلها يفتقر إلى الترتيب والأناقة، فضلا عن الاعتناء بالنظافة في إعداد الطعام وتقديمه، بحيث أصبحت هذه الأمور، على أهميتها، هامشية لكثرة المرتادين الذين يأكلون كل شيء دون التفكير في كيف أعد وكيف أحضر؟! وأما الأسعار فيميزها الجشع والمغالاة، ولا تخلو من النهب والمغالطات في الفواتير، وفي إرجاع الباقي، خاصة عندما يكون الزبائن من مواطنينا الكرام الذين يأنفون من مجرد التفكير في مراجعة الفواتير، هذا كله إضافة إلى مستوى المعاملة المتدني من قبل العاملين في هذه الأماكن، ربما بسبب مللهم من الوجوه التي تتكرر يوميا في المقاعد نفسها؟!
وأختم ما أردت الحديث عنه بأن مفهوم السفر قد تغير، وأصبحت الخسائر تفوق الفوائد معنويا وماديا، وأن تصرفاتنا وسلوكنا وممارساتنا السلبية تنعكس على نظرة الغير إلينا وعلى تعامله معنا، وأن علينا العودة إلى الذات، ومراجعة الحسابات، حسابات الذمة والضمير، ولمحاولة تصحيح ما يبدو لنا خطؤه في جوانبنا الأخلاقية والسلوكية.
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي