الآثار السلبية لغياب شركات قيادية في القطاع الصحي
أثارت شجوني قصه سمعتها من أحد الزملاء حيث ذكر لي أن نحو 30 مدرسا من منسوبي مدارس الحرس الوطني (قبل ضمها إلى وزارة التربية) طلبوا الحصول على التقاعد المبكر - وهم في عز عطائهم التربوي - والسبب فقط رغبتهم أن يستمروا كمنسوبي حرس وطني ليحافظوا على حقهم وحق عائلاتهم ووالديهم بالعلاج في مستشفيات الحرس الوطني عالية الجودة، ولكيلا يعانوا الأمرين (ضياع الصحة والمال معا ) عند خسارتهم لتلك الرعاية الصحية المتميزة مما يجعلهم عرضة لجشع بعض مستشفيات القطاع الخاص، مما يعني أنهم سيصرفون مبالغ كبيرة من رواتبهم للرعاية الصحية مقابل خدمة صحية أقل جودة.
هذه القصة وغيرها الكثير الكثير تثبت أن القطاع الطبي رغم أنه من أهم القطاعات الاقتصادية إلا أنه يعاني ضعفا شديدا يدفع ضريبته أفراد المجتمع من مالهم وصحتهم معا، وهذا ما لا يرضاه أحد، وإذا بررنا ضعف الخدمات الصحية الحكومية بسبب مجانيتها التي أدت إلى تزايد الطلب عليها بشكل لا يمكن الوفاء به إضافة إلى خضوعها للأنظمة البيروقراطية المثبطة، فكيف لنا أن نبرر ضعف الخدمات الصحية التي يقدمها القطاع الخاص الذي يشكل رضا العميل عنصرا مهما في نجاحه واستمراريته.
في اعتقادي أن غياب "ولا أقول ندرة" الشركات الصحية القيادية هو السبب الرئيسي في عدم ارتقاء الخدمات الصحية الخاصة إلى المستوى المطلوب، نعم لا يوجد في هذا القطاع شركة قيادية واحدة تحمل هم تنظيمه وتطويره ليكون قادرا على النهوض بالمسؤولية الملقاة على عاتقه في مساندة الخدمات الطبية الحكومية بما يعزز من الوضع الصحي في البلاد.
ولقد أثبتت التجارب العالمية أن غياب الشركات القيادية يحرم المجتمع من مؤسسات صحية قائمة على الفكر الإداري السليم، شركات تنادي وتعمل بالمبادئ والأخلاق، شركات ترى أن علاج المريض بأعلى جودة وأقل تكلفة هي الغاية، وغياب الشركات الصحية القيادية في السعودية ترك المجال مفتوحا على مصراعيه لمنشآت صحية متناثرة في أرجاء الوطن كافة يعمل جلها دون خطط إستراتيجية قائمة على نظرة بعيدة وقيم حاكمة وغايات نبيلة، بل إن معظمها يعمل كردود أفعال بأهداف قصيرة يتم تحقيقها بأي وسيلة والغش والخديعة أقصرهما، فتشكلت لها صورة سيئة في ذهن المرضى فهي في نظرهم منشآت ترى شفط أموال المريض هي الغاية وصحة المريض هي الوسيلة، والكثير من القصص تثبت أنه ومن أجل حفنة من الريالات يحصل عليها المستشفى أو أحد العاملين به يتم تعريض المريض لعمليات وفحوص وأدوية يتردد الأطباء البيطريون قبل تقريرها على من يعالجون!
نعم لقد تحولت معظم المنشآت الصحية إلى العمل بنظام الأهداف اليومية بدل الأهداف الاستراتيجية، فلكل طبيب هدف يومي تتم متابعته ومن لا يصل لهذا الهدف اليومي من التنويم والأدوية والمختبرات يتم توبيخه من الإدارة، ليصبح الأطباء بين خيارين أحلاهما مر، فإما الحنث بقسم الطبيب الذي يقسمه عند التخرج أو فقد الوظيفة نتيجة أفق إداري ضيق لا يحترم العلاقة الإنسانية الرفيعة بين الطبيب والمريض.
إن غياب الشركات الصحية القيادية أدى إلى فقدان المعيارية القياسية في الجودة والتكلفة، حيث لا يوجد أمام الجهات الرقابية أو شركات الـتأمين أو المرضى معايير قياسية – كما هو معمول به في الغرب - يستطيعون اللجوء إليها لاتخاذ القرار المناسب فيما يتعلق بالجهة التي سيتوجهون لها للحصول على الخدمات الصحية، كما أن غيابها أدى إلى تراجع قضية خدمة المجتمع سواء بتقديم خدمات صحية ذات جودة عالية وتكاليف مناسبة أو من خلال رفع درجة وعي أفراده الصحية أو من خلال إجراء الدراسات والبحوث الإكلينيكية التطويرية.
ما الحل إذا ؟ الحل يكمن في التحرك في ثلاثة محاور، الأول يتمثل في تفعيل قوى السوق بإعادة هيكلة التشريعات والأنظمة والإجراءات بما يهيئ لمنافسة شريفة تحفز المبدع وتستبعد المسيء، وهنا يأتي دور المنظم "وزارة الصحة" بالتعاون مع الجهات الحكومية المنظمة الأخرى ذات الصلة كوزارة التجارة ووزارة المالية وهيئة السوق المالية وبرنامج التوازن الاقتصادي والهيئة العليا للاستثمار وبالتنسيق مع الغرف التجارية لتحفيز رجال الأعمال للاستثمار في تأسيس شركات صحية قيادية عملاقة لتكون شريكا فعالا وحقيقيا للوزارة في تطوير الخدمات الصحية في البلاد، كما يمكن تعزيز قوى السوق بتفعيل دور شركات التأمين في ضبط الجودة والأسعار معا كما هو حاصل في الدول المتقدمة.
والمحور الثاني يتمثل في تشجيع المحسنين من الميسورين وأصحاب الأوقاف - وهم ولله الحمد كثر في بلادنا - للمساهمة في تطوير مجال الوقف الخيري وتحويله من مجال علاج الأفراد والتبرع بأجهزة الغسيل الكلوي إلى الوقف بالأسلوب المؤسساتي كما هو قائم في الدول المتقدمة حيث يتم تشغيل مستشفيات كبيرة عبر ميزانيات ضخمه قائمه على تبرعات تم استثمارها بأسلوب تجاري للصرف على هذه المراكز الطبية البحثية، أما المحور الثالث فيتمثل في تطوير القدرات الرقابية لوزارة الصحة لضبط الجودة والأسعار وذلك من خلال خصخصة نشاط التوجيه والرصد والضبط وتفعيل لجان فصل المنازعات في القضايا الطبية بما يضمن حق المرضى والأطباء معا.
ختاما إن الاعتراف بمشكلة ضعف الخدمات الصحية ومعاناة المواطن من ذلك وتكبده المزيد من المصاريف يشكل نصف الحل، أما النصف الثاني من الحل فلن نعدمه إذا خلصت النيات وأعملت العقول وبذلت الجهود المنسقة والمتكاملة، خاصة ونحن ننعم اليوم بفضل من الله بالإمكانات التي تساعدنا على تحقيق ذلك لينعم المواطن "هدف التنمية ووسيلتها" بالصحة والعافية التي تمكنه من الإنتاج والعطاء.
<p><a href="mailto:[email protected]">Abdalaziz3000@hotmail.com</a></p>
كاتب اقتصادي