ليس بين التأمين التجاري والتعاوني فرق يستوجب تحريم الأول وإجازة الثاني
أكد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضو هيئة كبار العلماء أن التأمين على الأموال والمنافع وغيرها وسيلةٌ من وسائل حفظ المال ورعايته والتعويض عنه في حال تلفه أو ضياعه, والحديث عن التأمين من هذا المنطلق والتصور يقتضي التمهيدَ له بما يعطي العلم عن مفهوم الإسلام للمال ونظرته إليه من حيث قيمتُه، والحفاظ عليه وتحصيله. وهل هو وسيلة أم غاية؟ ومن حيث توجيه الإسلام إلى الأخذ بأسباب إثباته والضمانات الكافية لأدائه وتنظيم الإجراءات لمنع تكاثره في أيدي قلة من الناس، وذلك بسَنِّ التشريعات الإلهية لتوزيع الثروات بين مستحقيها ولتنتفع بالمال مجموعةٌ من المحتاجين إليه من المسلمين.
وأوضح فضيلته في أحد بحوثه عن التأمين بقوله إن هناك فرقا بين التأمينين التجاري والتعاوني واستند إلى بعض الحجج, منها:
1- أن التأمين التعاوني يختلف عن التأمين التجاري في أن الفائض من التزامات صندوق التأمين التعاوني يعود إلى المشتركين فيه كل بحسب نسبة اشتراكه, وهذا أثر من آثار وصف هذا النوع من التأمين بالتعاوني. فهو تعاون بين المشتركين فيه على الصدوع وجبر المصائب وما زاد على ذلك رجع إليهم وما ظهر من عجز تعيّن عليهم سداده من أموالهم كل بقدر نسبة اشتراكه.
وأما التأمين التجاري فليس فيه هذا التوجه حيث يعتبر الفائض في صندوقه ربحاً لشركة التأمين التجارية, وفي حال وجود عجزٍ في هذا الصندوق فيعتبر خسارةً على شركة التأمين التجارية الالتزام بتغطية هذا العجز من رأسمال الشركة أو من احتياطاتها حيث تعتبر هذه الخسارة ديناً على الشركة.
وقال فضيلته إن دعوى اختلاف التأمين التعاوني عن التأمين التجاري في موضوع الفائض دعوى غير صحيحة, فالفائض ُ في القسمين ربحٌ والعجز في صندوق كل منهما خسارة.
وبهذا يتضح أن التأمينَ التعاوني يتفق مع التأمين التجاري من حيث الإجراء التطبيقي في جميع المراحل التنفيذية وفي العناصر الأساسية وليس بينهما اختلاف يقتضي التفريقَ بينهما في الحكم إباحةً وتحريماً, فكلا القسمين يشتمل على خمسة شروط, هي: المؤمن والمؤمن له ومحل التأمين والقسط التأميني والتعويض في حال الاقتضاء. وأن الإلزامَ والالتزام فيهما يتم بإبرام عقد بين الطرفين – المؤمَّن والمؤمن له – يكون في العقد بيانُ أحوال التغطية ومقاديرها والالتزام بها بغض النظر عن ربح أو خسارة.
وأضاف أن من الحجج القول إن التأمين التجاري يشتمل على الربا والغرر الفاحش والقمار والجهالة, وأن التأمين التعاوني يخلو من ذلك حيث إنه ضربٌ من التعاون المشروع فهو تعاون على البر والتقوى وأن القسط التأميني يدفعه المؤمَّنُ له للمؤمن على سبيل التبرع وأن التعويضَ في حال الاقتضاء يدفع من صندوق المشتركين وأنهم بحكم تعاونهم ملتزمون بالتعويضات سواءٌ وُجِد في الصندوق ما يفي بسدادها أم حصل في الصندوق عجز عن السداد فهم ملزمون بتغطيته من أموالهم كل بنسبة اشتراكه, وإذا وجد في الصندوق فائض تعيّن إرجاعه إليهم بخلاف التأمين التجاري, فما في الصندوق فائض يعتبر ربحاً لشركة التأمين التجارية فهي شركة ربحية قائمةٌ على المتاجرة وطلب الربح لا على التعاون. كما قيل إن التأمين التجاري مبني على الربا والقمار والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل بخلاف التأمين التعاوني فهو مبني على التبرع والتعاون المطلوب شرعاً وعلى المسامحة وانتفاءِ عنصر المعاوضة.
ولتوضيح هذا القول نقول إن هذا التوجيه لتسويغ القول بجواز التأمين التعاوني وحرمة التأمين التجاري مناقشته تحتاج إلى وقفات حتى يتضح لنا وجه قبول هذا التوجيه أو رده:
الوقفة الأولى: فيما يتعلق بدعوى القول إن التعاون المحمود والمشروع في التأمين التعاوني مقصودٌ عند الدخول من قبل المشتركين وهو قول غير صحيح فليس لواحد من المشتركين فيه قصدُ تعاون بينه وبين إخوانه المشتركين بل إن الغالب لا يعرفهم أو أنه يجهل أكثرهم, ولكن هذا التعاون تم بغير قصد كالحال بالنسبة إلى المشتركين في التأمين التجاري, ولا شك أن التأمين بصفة عامة يحصل منه تعاون غير مقصود من المشتركين فيه كما يحصل ذلك في جميع الأعمال المهنية ومن جميع العاملين فيها.
وقال لا أظن أحداً يدعي التفريق بين مشترك في التأمين التعاوني ومشترك في التأمين التجاري فيقول: إن المشترك في التأمين التعاوني يقصد التعاون على البر والتقوى محتسباً الأجر في ذلك عند الله بخلاف المشترك في التأمين التجاري فليس له قصد في التعاون. لا شك أن القول بذلك دعوى موغلةٌ في الوهم وعدم الانفكاك عما يكذبها من حيث الحسُّ والعقل. بهذا يظهر أن وصف التأمين التعاوني بالتعاون المقصود قولٌ لا حقيقة له وأن الصحيح أنه تعاون غير مقصود كالتعاون التجاري.
ثانيا: القول إن القسط التأميني في التأمين التعاوني تم تقديمه من قبل المؤمن له على سبيل التبرع، هذا القول قرين لدعوى التعاون المقصود الذي تبين بطلانُه. فمن خصائص التبرع أن المتبرعَ له حقُّ العدول عن التبرع بكامل ما يتبرع به أو بجزئه, كما أن له حقَّ الامتناع عن الاستمرار بما وعد به من تبرع بالأقساط أو بالمشاركة في سد عجز الصندوق. فهل يقبل من المشترك في التأمين التعاوني هذا الحكم على اعتبار أن مشاركته كانت على سبيل التبرع؟ أم أن امتناعه عن الاستمرار في دفع الأقساط أو الامتناع عن المشاركة في تغطية عجز الصندوق يسقط حقَّه في التعويض وفي المطالبة بما مضى منه دفعه ويعطي القائمين على إدارة التأمين التعاوني حقَّ فسخ العقد معه؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل من باحثٍ عن الحقيقة يبطل القول بدعوى التبرع ويلزم بالقول إن المؤمن والمؤمن له تعاقدُ معاوضة توجب الإلزام كالحال بالنسبة إلى التأمين التجاري؛ وأن القول بالتبرع من دون أن تثبت له أحكامه ضربٌ من الوهم والخيال.
ثالثا: القول إن توزيع الفائض في الصندوق بعد دفع المستحقات عليه يخرج التأمينَ التعاوني من أن يكون طريقاً من طرق المتاجرة وطلب الربح, وجه الوقوف مع هذا القول من جانبين:
أحدهما: أن طلب الربح والأخذ بأحوال وأنواع التجارة ليس أمراً محرماً أو مكروهاً حتى يُعَدَّ ذلك من مسوغات القول بتحريم التأمين التجاري لكونه يستهدف ذلك. والقول بإباحة التأمين التعاوني لانتفاء الربح, فالضربُ في الأسواق والسعي في طلب الرزق والربح أمر مشروع.
الجانب الآخر: يتلخص في أن التأمين التعاوني في واقعة شركةُ تأمين مكونة من مشتركين أعضاءً فيها. فكل مشترك يحمل في الشركة صفتين, صفة المؤمن باعتباره باشتراكه فيها عضواً له حقّ في الفائض بقدر نسبة اشتراكه وعليه الالتزامُ والمشاركة في سداد عجز صندوق الشركة عن الالتزام بالتعويضات بنسبة مشاركته. وله صفة المؤمن له باعتباره باشتراكه أحد عملاء الشركة ملتزماً بدفع قسط التأمين وتلتزم الشركة له بدفع تعويضه عما يلحقه من ضرر مغطى بموجب عقده مع الشركة. وبهذا ينتفي وجه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري, فكلتاهما شركة تأمين تتفق إحداهما مع الأخرى في جميع خصائص التأمين.
رابعا: من يقول إن التأمين التجاري يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة وإن التأمين التعاوني لا يشتمل على ذلك وإنما هو ضرب من ضروب التعاون والتسامح والتبرعات, فعلى افتراض أن التأمين التجاري ينطوي على الربا والقمار والغرر والجهالة فإن التأمين التعاوني يصب في هذا الحوض نفسه مع التأمين التجاري. فأهل هذا القول يقولون عن التأمين التجاري إن المؤمَن له يدفع أقساطاً تأمينية هي أقل بكثير مما قد يُدفع له تعويضاً في حال الاقتضاء. وليس تقابض العوضين في مجلس واحد وإنما أحد العوضين يُستلم قبل تسلم العوض الآخر إن كان بوقت طويل, وهذا هو عين الربا بقسميه ربا الفضل وربا النسيئة. ويمكن أن يقال: إن التأمين التعاوني يسلك هذا المسلك حذو القذة بالقذة ومن فرق بينهما بدعوى التبرع أو التعاون فتفريقه مردود عليه بما سبق. والقول إن التأمين التجاري يشتمل على القمار حيث إن القمار يعتمد على غرم محقق وغنم محتمل حيث إن المشترك يدفع أقساط اشتراكه قطعاً ولا يدفع له التعويض عن الضرر إلا في حال وقوعه. ووقوع الضرر محتملٌ فقد يقع فيُدفع له مبلغ يفوق ما سبق منه دفعه وقد لا يقع الضرر فتضيع مبالغُه التي دفعها في شكل أقساط, وهذا هو القمار – غرم محقق وغنم محتمل – ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التعاوني يتفق مع التأمين التجاري في هذا التصور. فالمشترك في التأمين التعاوني يلتزم بدفع أقساط التأمين في كل حال وقد ينتهي عقد التأمين معه دون أن يقع عليه ما يقتضي التعويض, فاتفق مع التأمين التجاري في دعوى اشتماله على القمار – غرم محقق وغنم محتمل – والقول إن التأمين التجاري يشتمل على الغرر الفاحش حيث إن المؤمن له لا يدري هل ينتهي عقده دون أن يقع عليه ما يوجب التعويض فما مقداره؟ فهذا عين الغرر. ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التأمين التعاوني يتفق مع هذا التصور, ويسير بهذا مع التأمين التجاري جنبا إلى جنب. ولا يدفع هذا دعوى أن التأمين التعاوني مبني على التبرع والتعاون والتسامح. فهو قول موغل في الوهم والخيال, فليس بينهما فروق تقتضي التقسيم والتفريق في الحكم.
شرعية التأمين بنوعيه
وأبان فضيلته أن التأمين بنوعيه لو تحقق فيه القول باشتماله على الربا والقمار والغرر الفاحش والجهالة, لو تحقق فيه ذلك أو اشتمل على واحدة مما ذكر لكان ذلك كافياً في القول بحرمته ولا نعلم في القول ببطلان أي عقد يشتمل على الربا أو الغرر الفاحش أو القمار أو الجهالة خلاف بين أهل العلم في البطلان, والنصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة رسوله محمد, صلى الله عليه وسلم, متوافرة في ذلك, فهل التأمين بنوعيه يشتمل على ما ذكر من ربا وقمار وغرر وجهالة ؟ إننا نستطيع أن نتبين ذلك عن طريق التعرف على محل العقد في التأمين. هل محل ذلك المعاوضة بين نقد ونقد كما هو الحال في المصارفة؟ أم أن محل ذلك عنصر الرهان والمقامرة بحيث يربح أحد المتقامرين ويخسر الآخر؟ أم أن محل العقد أمر مجهول لا نعلم حقيقته ولا قدره ولا وجه حصوله؟ أم أن الغرر متحقق حصوله لدى أطرافه؟ الواقع أن محل العقد في التأمين بقسميه ليس ما ذكر وإنما هو ضمان الأمن والأمان والسلامة من ضياع المال أو تلفه, فالأقساط التأمينية ثمن للضمان, فليس لدينا نقود بنقود, وليس لدينا غارم وغانم, وإنما كل طرفيه غانم, فالمؤمن غانم للأقساط التي هي ثمن ضمانه السلامة. والمؤمن له غانم السلامة سواء سلمت العين المؤمن عليها حيث كسب الطمأنينة والارتياح النفسي أثناء مدة عقد التأمين عليها, وفي حال تلفها فهو كاسب التعويض عنها, فهو سالم في حال السلامة أو التلف.
وانتقل للحديث عن إيرادات على القول إن محل العقد ضمان الأمن ومنها القول إن من شروط البيع أن يكون المبيع مملوكا للبائع وقت العقد، والأمن والأمان ليسا مملوكين للمؤمن وقت إبرام عقد التأمين بينه وبين المؤمن له, حيث قال: إن المؤمن وهو شركة التأمين باع من ذمته أمناً جرى وصفه وصفا تنتفي منه الجهالة, وجرى ذكره في العقد وهو قادر على تحقيقه للمؤمن له وقت الاقتضاء وذلك بدفعه التعويض الجالب للطمأنينة والسلامة والأمان. وهذا من أشباه ضمان الأسواق وضمان أمن الطرقات التي جرى ذكرها واعتبارها لدى بعض الفقهاء ومنهم فقهاء الحنفية فقد ذكروا: (لو قال شخص لآخر اسلك هذا الطريق فإنه آمن وإن أصابك شيء فيه فأنا ضامن، فسلكه وأخذ اللصوص ماله ضمن القائل تعويضه عما أخذ منه) أهـ. فهذا نوع من التأمين وهذا القائل: اسلك هذا الطريق وأنا ضامن ما يحصل عليك, لا يملك الضمان وإنما ضمن له من ذمته مما يغلب على الظن قدرته على حصوله عليه وقت حلول أجل التسليم.
كذلك منها: القول ببيع الضمان- الأمن والأمان - باعتباره محل العقد يعني القول بأخذ الأجرة على الضمان وهذا القول قد رفضه جمهور أهل العلم بل حكى ابن المنذر الإجماع ممن يحفظ عنه من أهل العلم على منع أخذ الأجرة على الضمان حيث جرى تخريج محل العقد في التأمين على شراء الضمان – أي ضمان حصول الأمن والسلامة للمؤمن له- وأن ذلك غير جائز.
والجواب عنه: إن القول بمنع أخذ الأجرة على الضمان ليس محل إجماع بين أهل العلم وإن ذكر ذلك ابن المنذر –رحمه الله – فقد قال بجوازه الإمام إسحاق بن راهويه أحد مجتهدي فقهائنا الأقدمين. وقال بجوازه من علماء الأزهر الشيخ علي الخفيف والشيخ عبد الرحمن عيسى والشيخ عبد الحليم محمود, ومن علماء المملكة الشيخ السعدي والشيخ عبد الله البسام.
الأمر الرابع: إن الضمان في التأمين وقع على أمر مجهول قدره وغير واقع وقت حصول التعاقد بين الطرفين, والعقد على أمر مجهول قدره وغير واقع وقته مما تفسد به العقود, والجواب: أن جمهور أهل العلم يجيزون ضمان المجهول وضمان المعدوم, لأن مآله العلم إذا وقع, والإلزام بأثر الضمان لا يتم إلا بوقوع مقتضاه, ومتى وقع حصل العلم بمقداره, وقد نص على جواز ضمان المعدوم والمجهول مجموعة من أهل العلم منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين من الفقهاء.
إن موضوع التأمين موضوع ذو أهمية بالغة من حيث حصول البلوى به في أغلب مجالات حياتنا, وإنه نازلة عصرية يجب تكثيف الجهود لبحثه من قطاعات علمية ومهنية مختلفة.