رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


حتمية تقنين التشريع لحماية الأمة من شخصنة التحليل والتحريم

لدينا في المملكة ميزة نسبية أو قد تكون أكثر من نسبية، تتلخص بأن لدينا دستور يفوق جميع الدساتير الوضعية برغم تنوعها وتعددها الكبير منذ قانون حمورابي وإلى اليوم. هذه الميزة هي وجود دستور القرآن الكريم الذي هو أرقي وأعلى وأجل الدساتير لأنه من خالق الخلق وليس دستوراً وضعياً. ومن أهم مميزات هذا الدستور كونه قانون إلهي فأنه أعم وأشمل ويغطي جوانب حياة البشر والأمم كافة ويلبي جميع الحاجات المتغيرة والمتطورة بشكل عملي لا وجود له، ولا يحتاج إلى تغيير وتطوير حسب تطلعات الأمم. ولم يوجد دستور لم يشمله التطوير والتعديل إلا دستور الإسلام وهو القرآن لأنه كما قلنا صنع ليكون صالحا لكل الأزمنة والأمكنة من خالق الزمان والمكان. وقد أدرك مؤسس هذا الكيان الملك عبد العزيز رحمه الله وأبناؤه من بعده هذه الحقيقة منذ بداية قصة توحيد المملكة، وهو إدراك بصر وبصيرة أصبحنا نتلمس تلك الميزة بعد نحو قرن من هذا التوجه الحكيم في جعل دستور المملكة القرآن الكريم وشريعة رب العالمين.
وكون ذلك من مميزاتنا التي لم تستثمر بشكل جيد لأن الأمم التي تحاول النظر خلف أسوارها وتنسى أو تتناسى ما لديها من كنوز في حدائقها تكون أقل الأمم قدرة على الإبداع والاكتشاف، لأنها تركت ما تملك وحولت نظرها إلى ما لا تملك وبالتالي أصبح ما تملكه في حدائقها هو مجال للمستغلين وللجهلة والذين، إما من منطلق الجهل أو الاستغلال، لم يكتشفوا الكنوز الحقيقة، وإنما اكتشفوا كيف يقودوا الناس من خلال وضع القيود والأغلال. مع التذكير أن "الحكمة ضالة المؤمن أنّا وجدها فهو أحق بها".
وحتى نكون أكثر تحديدا لنأخذ جوانب التحريم والتحليل في الشؤون الاقتصادية والمستجد منها، وهي الآن أكثر تماسا مع الجوانب الاجتماعية بحكم التغيرات الاجتماعية التي شهدها المجتمع خلال العقود الخمسة الماضية وبالذات مع دخول الألفية الثانية، حيث ثقافة المجتمع الاقتصادية تغيرت وحاجات الحياة تطورت وبالتالي أصبح الفرد بغض النظر عن المستوى المعيشي بحاجة ماسة إلى توفير الحاجات الاقتصادية المهمة لضمان حياة كريمة له ولأسرته من خلال وسائل الادخار والاستثمار بتعدد قنواته حسب إمكانيات كل فرد. ولكن كل ذلك يتصادم مع قضية أصبحت ذات وجهين يسببان حالة من الصراع الذاتي والمجتمعي وهي قضية التحريم والتحليل في كثير من الشؤون الاقتصادية مثل الاكتتابات والأسهم النقية وغير النقية، والقروض الإسلامية والقروض الكافرة، خصوصا أن المجتمع ومنذ بدأت عملية التخصيص ودخول أعداد كبيرة أو لنقل أن كل المجتمع بمختلف شرائحه ومستويات ثقافته الاستثمارية أصبح لاعبا اقتصاديا بغض النظر عن مستوى هذا الادخار والاستثمار وحجمه، وبالتالي على متخذي القرار الاقتصادي سواء على المستوى الحكومي أو الخاص أن يأخذوا في الاعتبار هذه الشرائح ومواقفها الدينية مما سوف يتم الإقدام عليه أو تقديمه كمنتجات مالية متطورة. وهو الأمر الذي تسير عليه المملكة مع قدوم العديد من المؤسسات المالية والوسطاء الماليون وهم بكل تأكيد سوف يعملون منذ اليوم الأول على تطوير منتجات جديدة تحتاج إلى أن يكون هناك قبول عام لها حتى يمكن تسويقها بشكل سليم.
إذن التغيرات القادمة سوف تكون أكثر تماسا مع الشارع العام وبالتالي سوف تكون تداعيات المشكلة أكبر وإمكانية التصادم في الأفكار أكثر وضوحاً وقد يتم استغلالها بشكل أكبر لمصالح شخصية وتوظيف أكثر للدين في سبيل تحقيق مصالح شخصية أو فردية. هذه هي النتيجة الأولى لمثل هذا الوضع الضبابي.

والنتيجة الثانية أن ذلك الإشكال سوف يعوق التطوير ويحول دون مرونة هي أساس التشريع الإسلامي في الأمور الحياتية اليومية وبالتالي ومع كون المملكة لاعبا في الاقتصاد الدولي أو جزء منه وبالذات بعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية سوف تصبح التشريعات الدولية نافذة علينا محليا ولا خيار أمام المشرع المحلي، ويعتبر الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بداية التحدي وليس نهاية القصة كما يعتقد البعض. ولا أرى في الأفق إجراءات على الأرض للاستعداد لهذا التحدي الحقيقي.
والنتيجة الثالثة لمثل هذا الوضع هي الجانب القضائي الاقتصادي والمالي الذي يتطلب قدرة فائقة على التعامل مع المستجدات الاقتصادية التي أصبحت تتسم بالتعقيد والتطور والتي قد لا تفيد معها المعالجة القائمة لمعالجة القضايا الاقتصادية تلك. فلا يمكن قبول من الناحية المبدئية أن يكون لنفس نوع القضية أو المشكلة أحكام مختلفة بسبب اختلاف اجتهادات القضاء التي تأتي بسبب الرؤية الشخصية للأمور وليست التقنينية والتشريعية. ولو كان الدين قائم على الرؤية الفردية لما أنزل الله الكتاب وحفظه من التحريف كدستور قائم إلى يوم القيامة، وأكد على أن لا رهبانية في الإسلام (لا رجال دين).
ولكن المشكلة كما هي حاليا تكمن في تعدد التحريم والتحليل والتي لا تدخل في وجهات النظر ولكنها تتعدى تبعاتها إلى أمة كاملة وملايين الأفراد، وكما شاهدنا في قضية اكتتاب البحر الأحمر وعلى العديد من وسائل الإعلام هناك من يحرم بشدة ويحذر وهناك من يحلل وبشدة، والضحية في النهاية هم أفراد المجتمع الذين في الغالب يكونون في حالة ارتباك كاملة تجعل الإنسان في مواقف محرجة حتى أمام مجتمعه الضيق الذي قد يكون أكثر انفتاحا أو أكثر تشدداً وبالتالي يكون قرار الفرد ليس قضية التحريم والتحليل فقط ولكن قراره يكون بسبب التوجه المجتمعي للذين حوله. طبعا هناك من يقول إن اختلاف الأمة رحمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي مقولة تعتبر من مميزات الشريعة الإسلامية كونها أعطت مجالا أكثر للحركة والذي قد لا يتوافر في ديانات أخري بحكم التحريف والتشدد البشري، ولكن لدينا مشكلة التفسيرات البشرية لهذه الحرية التي تتجه أكثر نحو التشدد على حساب المرونة رغم أن الأصل في الأشياء التحليل وليس التحريم، ولكن التطبيق العملي في مجتمعاتنا يؤكد أن العكس هو السائد والمعمول به.
وعليه تصبح قضية التقنين ولعدد كبير من الأسباب ضرورة حتمية لتلافي العديد من المشاكل والنتائج السلبية لهذه الحالة القائمة، وبالذات عندما يتعلق الأمر بالأمور الاقتصادية على المستوى الكلي والجزئي للاقتصاد الذي لم يعد شأنا داخليا فقط ولكنه أمر دولي مفتوح ويتأثر ويجب أن يؤثر على الاقتصاد الدولي، ويخضع لعهود ومواثيق الدولة، ومن فيها ملتزمون بتلك الاتفاقيات. وبالتالي علينا أن نكون مبادرين للتأثير في الآخرين وليس لقبول التأثير من الخارج. وعليه أؤمن بأن لدينا بضاعة ذات جودة عالية نستطيع تسويقها إذا ما خلصت النوايا وشحذت الهمم للعمل على تقنيين التشريع وبالذات الاقتصادي منه واضعين في الاعتبار فلسفتنا الاقتصادية وحدود التحريم والتحليل بما يحقق التوافق الداخلي والتأثير الخارجي وخصوصا أن لدينا نافذة منظمة التجارة العالمية التي أصبحت تعطي كميزة تساوي مستويات النفوذ لجميع الدول مهما كبر حجمها أو صغر داخل المنظمة في الجانب الاقتصادي وبالذات مع تزايد النفوذ للمصرفية الإسلامية على مستوى العالم أجمع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي