"المال والأخلاق" 2
هناك علاقة مؤكدة بين المال والأخلاق، وتأتي رسالة الإسلام أسبق من أي مفهوم آخر في ترسيم العلاقة بين المال والأخلاق لدرجة التشريع القاطع، فيتمثل في كثير من التجاوز الأخلاقي في المال: (الفساد والبطلان) في العقود والشروط، والأحكام المالية التي تراها تحت تفصيل واسع في كتب الفقه الإسلامي التي تقرأ فيها أن الأصل في المعاملات الحل، فلم تكن صور البيع استثناء عن عادة الإنسان، لكن تلك النصوص من الشريعة أدخلت الضابط الأخلاقي لكل معاملة أو تداول مالي، ومن هنا تجد الشريعة رفضت، ولا سيما في عالم المال أخلاقيات الفساد والاستغلال الجائر، فجاء النهي عن (الغرر، الغش، النجش، والكذب)، وربما كانت هذه الأخلاق بسيطة الإدراك والرفض حتى للبسيط من الناس، فالنفس البشرية الفاضلة تعيش رفضا أوليا للكذب والغش ونحو ذلك، لكنك مع ذلك تجد تفريغا للمعاملات المالية في الإسلام من الالتفات الأخلاقي الفاسد في قاعدة (إبطال الحيل)، وهي من قواعد فقه المال وأحكامه، ومن هنا جاء المنع لكثير من صور العقود التي تتولد منها صناعة الطبقية الطاغية التي تقود الفقراء إلى مزيد من الحرمان، ونكد العيش.
إن العلاقة بين المال والأخلاق بقدر ما هي مؤكدة فهي قيمة أولية لسياسة المال، فلا تستطيع أن تنتظر من عالم المال حين يتجرد من النظام والحقوق الأخلاقية أي صناعة جميلة للحياة، إذ من المقدر أن الأخلاق بمفهومها الشرعي الشمولي هي المخلص للمال من عالم الفتنة الطاغية إلى عالم الفضل والطيبات من الرزق ?ولقد آتينا داود منا فضلا?.
وحين يتجرد عالم المال من الأخلاق فمن الممكن أن ترى صوراً من التسلط والاستبداد كافية لصناعة أزمات تطول الملايين من الناس.
إن الأخلاق كلمة ذات ظل ممتد في مفهوم الشريعة، فحين تتحدث عن تنظيم العقود والمعاملات وشروطها، بل وتقسيم المال والحقوق الواجبة والمشروعة في المال فهذه كلها داخلة تحت رسالة الأخلاق والحقوق، وبقدر الوضوح الذي نراه في حاجة عالم المال إلى الأخلاق فمن الممكن أن نرى الأهمية نفسها للمال في عالم الأخلاق، إذ من المؤكد أن المال يشكل أحد مقومات التوازن لحياة البشر، ولهذا جاء مثل قول الله تعالى: ?هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا?. وقوله: ?قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق?.
إن المال مؤهل أن يعالج الكثير من السقط والخلل الأخلاقي حينما توجد الإرادة والإدارة الواعية الآخذة بفقه الشريعة، ومن هنا فإن صناعة المال أحد مكونات الامتياز البشري الذي من الممكن أن يشارك في ترسيم الاعتدال الاجتماعي وضبط التصرف والتفكير لدى الناس.
هذا حديث ممتد، لكن بيت القصيد -كما يقال- في ضرورة ترسيم جاد لعلاقة توازن مشتركة في النظرية والتطبيق بين المال والأخلاق، فبقدر ما تُصلح الأخلاق المال فمن المؤكد أن المال يشارك في إصلاح كثير من الأخلاق المائلة، فالعلاقة بينهما لا تمثل منفعة من طرف واحد، فحين تكون رؤية العلاقة المتبادلة بين المال والأخلاق ثقافة شائعة في المجتمع فهذا مؤشر اندماج اجتماعي واعٍ وجيد بين رجال المال ورجال الرعاية الاجتماعية على أقل تقدير.. والله الهادي.
عضو هيئة كبار العلماء