العقل العربي: الانتخابات اليمنية نموذجاً
<a href="mailto:[email protected]">atrairy@ksu.edu.sa</a>
كنت قد تناولت العقل العربي في كتاب العقل العربي وإعادة التشكيل الذي سبق نشره ضمن سلسلة كتاب الأمة الصادرة من مركز البحوث والمعلومات بوزارة الأوقاف في دولة قطر. وقد جعلت من النخبة في المجتمعات العربية مدخلاً لتحليل وتشريح العقل العربي بغرض الوقوف على أهم ملامح العقل العربي, وذلك حسبما يتضح من أفعال وتصرفات وتصريحات النخبة في المجتمع العربي وقت تأليف الكتاب بناءً على ما تم رصده.
والمقصود بالنخبة هم رجال السياسة، والفكر والإعلام، وقادة الرأي، وذلك أن هذه الفئة هي الأكثر تأثيراً على الصعيد الاجتماعي، إذ هي التي تسهم في تشكيل الرأي العام، وهي التي تتخذ القرارات المصيرية، وبشكل عام هي التي توجه بوصلة المجتمع. ونظراً لخطورة الدور الذي تلعبه هذه النخبة في تشكيل بنية العقل وكيفية إدراكه وتعامله مع قضاياه وقضايا العالم, كان لزاما أن تكون لنا وقفة مع العقل العربي في موقف من المواقف السياسية يتم من خلالها تشريح وتحليل الموقف لمعرفة الظروف والملابسات التي أحدثته, ومعرفة الآليات التي استخدمت لبلورة الموقف ومن ثم معرفة الأهداف والغايات التي تتحقق من خلال هذا الموقف.
الحدث أو الموقف محل التشريح هو انتخابات الرئاسة اليمنية، حيث أعلن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، قبل عام عدم نيته الترشح للرئاسة في الانتخابات المقبلة وقد استقبل هذا الإعلان ومن قبل أوساط مختلفة داخل اليمن وخارجه بالترحيب, ليس فرحاً برحيل الرئيس عن مقعد الرئاسة، بل تثميناً وتقديراً للرئيس على هذا الموقف الشجاع الذي يندر حدوثه في العالم الثالث. وخلال الأشهر الماضية كثرت التحليلات والتفسيرات حول الأسباب، والدوافع، فالبعض يرى أن الرئيس علي عبد الله صالح، وصل إلى قناعة شخصية أنه لا بد من إعطاء الفرصة لغيره من أبناء اليمن كي يدير دفة السفينة، إذ إنه أدارها فترة طويلة بلغت ثمانية وعشرين عاماً قدم خلالها ما استطاع أن يقدمه، وحان الوقت ليتسلم الراية شخص آخر ليعطي ما يستطيع، وهكذا ينفتح الباب أمام مبدأ تداول السلطة. الرأي الثاني يرى أن السبب يعود إلى أن الرئيس تعب وملّ السياسة وحان الوقت لأن يعتني بنفسه بدلاً من الإرهاق الذي يتعرض له خاصة مع وجود مشاكل داخلية متمثلة في البطالة والفقر واضطرابات وزعزعة أمنية مثل حركة الحوثي، وأعمال القاعدة واختطاف الأجانب والسياح، وتمرد بعض القبائل. لكن فريقا ثالثا يرى أن الأسباب تختلف تماماً عما ذكر سابقا، فهي مناورة أكثر منها شيء آخر، مناورة يراد منها جس نبض الشارع ومعرفة موقف القوى السياسية في اليمن، هذه المناورة يراد منها إشعار الشارع اليمني أن الرئيس لا يرغب في الترشح ولا يرغب في الاستمرار في السلطة، وكأن مثل هذا الخبر يراد منه إشعار الإنسان اليمني بقرب حدوث انفصال في العلاقة الأبوية التي يجسدها الرئيس، مثل هذا الموقف يجسد صورة طالما تكرر عرضها على مخيلة الإنسان العربي من أن قائده السياسي، هو الفارس، والحكيم، والمحنك، والأمين، والشجاع، والقائد الذي لا بديل له، وعليه أن يتمسك به ويتشبث به ولا يفرط فيه، إذ لا يمكنه أن يجد مثيلاً له وسيكون وضع الإنسان العربي الذي يتخلى قائده عن السلطة مثل الإنسان اليتيم الذي فقد والده فجأة وهو صغير غير قادر على الاعتماد على نفسه.
تفسير آخر يرى أن العمل هو تكتيك سياسي يراد منه إخراج القوى السياسية المعارضة بغرض طرح برامجها ومرشحيها بغرض مقارنته بالرئيس وإحراقهم بشكل مبكر, حيث إن بعضهم قد لا يملك ما يمتلكه الرئيس من تاريخ وإمكانات تؤهله ليكون المرشح الأفضل في الشارع اليمني.
ما حدث يوم السبت الموافق 28/5/1427هـ، من حشود خرجت للشوارع تطالب بتراجع الرئيس عن تصريحاته في عدم الترشح، حيث امتلأت الشوارع بالجماهير، وكما تقول المعارضة، هذه الحشود هم موظفو الدولة ومن يتبعهم تم إخراجهم بغرض إقناع الآخرين في الداخل والخارج بأهمية الرئيس وقيمته ومحبة الناس له. ولا ننسى أثر ما يسمى في علم النفس العقل الجمعي في دفع الدهماء وعامة الناس للتجمع انسياقا واندفاعا غير عقلاني وحبا في الاستطلاع دونما قناعة حقيقية للتأثير في موقف الرئيس.
لا شك أن الرئيس بشر والبشر يتأثرن بالضغوط التي يتعرضون لها خاصة حينما تأتي هذه الضغوط من حشود كبيرة وفيها زعامات سياسية وقبلية وفكرية، ومن هذا المنطلق برر الرئيس اليمني تراجعه عن اعتزال السياسة وعدم الترشح، حيث ذكر أنه استمع للنداءات والمناشدات وقرأ التحليلات وقدر مطالبات الشعب اليمني له للبقاء والاستمرار والترشح مرة أخرى. بهذه العبارات جاء تبرير العدول عن عدم الترشح.
ومن أجل معرفة الأسباب الحقيقية لتراجع الرئيس عن تصريحه الذي شغل به الرأي العام المحلي اليمني وجزءا من الرأي العام الإقليمي، لا بد من التأكيد على صحة الأسباب السابقة الذكر وأنها من ضمن حزمة أسباب، لكن أهمها هو بنية التفكير التي يتفرد بها الرئيس علي عبد الله صالح وحده بل تشابهه زعامات العرب بكاملها عدا الاستثناءات المحدودة التي تمثلت فيما أقدم عليه الرئيس عبد الرحمن سوار الذهب، حين تخلى عن السلطة. إن كينونة الإنسان العربي وبما تشربه من ثقافة عامة سواء في المدارس أو الإعلام أو المساجد أو المنازل كلها تصب في خانة التنزيه والسمو والقدرة الفائقة والفروسية والدهاء والحكمة. ثقافة تجعل الفرد ينظر لذاته بتحقيق الإنجازات والمعجزات التي لا يمكن لغيره تحقيقها وأن الآخرين لا شيء بدونه. أعتقد أن ما تشبع به العقل العربي وما جبل عليه، من أن شيخ القبيلة لا بديل عنه ولا مناص, هو ما يفسر ما جرى في اليمن وفي غيرها من أوطان العالم العربي كافة ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى إبداعات الأنظمة العربية في هذا الشأن حيث اخترعت هذه الأنظمة فكرة الاستفتاء على الرئيس التي لم يُسْبَق العرب إليها، حيث يكون المرشح واحداً ويتم الاستفتاء عليه ضمانا لاستمرار شيخ القبيلة في رئاسة قبيلته حتى يحدث انقلاب عسكري أو يغيبه المرض. وما تفتق عن هذا العقل هو أيضاً مفهوم النظم الجمهورية ـ الملكية، حيث يورث الرئيس السلطة لابنه لكن وفق شعارات جمهورية.
إن الإنسان العربي وهو يشاهد ويعايش مثل هذه الممارسات تتشكل ذهنيته وفق سياق التفكير العشائري الذي لا يرى بديلاً عن شيخ القبيلة بأبوته الحانية وقدراته الفائقة، والقائد في نفس الوقت يتجسد لديه هذا الشعور، حيث يرى في نفسه القائد الفذ، الملهم، المنقذ، الصاد لكل عدوان، وهذا بدوره يزيد، ولا أقول من القابلية والاستعداد للاستمرار في الحكم بل من الاستماتة في هذا الاستمرار حتى أنه يخترع الحيل، ويعاد النظر في الدستور، ويبدل فيه، وتغير القوانين حتى تكون الظروف كافة مناسبة وملائمة من الجوانب كافة كي يتم الانتخاب وإعادة الانتخاب.. الخ، ولسان الحال يقول الزعيم الأوحد موجود حتى الرمق الأخير والزعيم قادر على مواجهة التحديات كافة.
إن ما حدث ويحدث في أماكن متعددة من العالم العربي والإسلامي، ما هو في حقيقة الأمر إلا تأكيد لحالة البؤس العقلي التي تعيشها الأمة حيث تحولت قضاياها المصيرية إلى شعارات ترفع وتردد مع إصرار على تغييب العقل وإبعاده عن جادة التفكير السليم التي تحفظ للإنسان كرامته وتحافظ على صورته أمام الآخرين إن كانت هذه الصورة لا تزال موجودة ولم تدخل متحف الاستهزاء كي يتم عرضها للزوار الذين قد يترحمون على الأمة أو يشتمونها.