لا لن يكون هناك شرق أوسط جديد
<a href="mailto: [email protected]"> [email protected]</a>
تتعامل الإدارة الأمريكية مع قضايا الشرق الأوسط بصورة محيرة، وتفتقر إلى القدرة على اكتساب الخبرة في التعامل مع قضايا المنطقة ولا تتعظ أو تتعلم من إخفاقاتها السابقة، وتُكرر ارتكاب أخطاء استراتيجية تلحق بالغ الضرر بمصالحها الحيوية. أي شخص بمستوى محدود من الوعي السياسي كان قادرا على التنبؤ بالصعوبات التي ستواجهها الولايات المتحدة في حال احتلالها العراق، هذا وحده يفترض أن يكون كافيا لردع إدارة بوش عن التهور والخوض في المستنقع العراقي، إلا أنها لم تفعل وبكل رعونة وضعت نفسها في ورطة لا مخرج لها وكلفتها الكثير.
ودعمها السافر للعدوان الصهيوني على فلسطين ولبنان لا يخدم مصالحها في المنطقة، ولن يحقق الأمن لإسرائيل، ولم يوهن عزيمة ضحايا الاحتلال والعنف الإسرائيلي، بل على العكس من ذلك، زاد من صمودهم وتأييد الشارع العربي والإسلامي للمقاومة. فشعبية حماس هي أكثر من أي يوم مضى، ولو أعيدت الانتخابات الفلسطينية لربما فازت حماس بعدد أكبر من مقاعد المجلس التشريعي، ولن تنتهي أزمة لبنان إلا وقد أصبح حزب الله مثلا أعلى للمقاومة في العالمين العربي والإسلامي، يحظى بتأييد يبلغ أضعاف ما كان عليه قبل هذا العدوان الغاشم.
والولايات المتحدة في حربها على الإرهاب، التي تخلت فيها عن كل معايير أخلاقية ادعت زورا احترامها والدفاع عنها، جعلها مدانة في نظر العالم بأفعال أشد شناعة من أفعال من اتهمتهم بالإرهاب، ما أفقدها مصداقيتها وبعدها الأخلاقي. فلا أحد في العالم يصدق الإدارة الأمريكية عندما تدعي دفاعها عن حقوق الإنسان، أو أنها ضد طغيان الأنظمة الشمولية في العالم المتخلف، فسلوكياتها في أبو غريب وجوانتانامو أبلغ من أن تطمس من خلال ادعاء زائف متكلف بالدفاع عن الحرية والديمقراطية، ومعظم استطلاعات الرأي تشير إلى أن العالم يرى أمريكا، وليس إيران أو كوريا الشمالية، أكبر تهديد للسلام العالمي.
ردة الفعل الإسرائيلية على أسر الجنديين المتناهية في العنف والعنجهية، والدعم اللامحدود الذي تلقاه من قبل إدارة بوش، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن عملية أسر الجنديين ليست سبب هذه الهجمة الشرسة، وإنما هي جزء من خطة كانت جاهزة مثلت عملية أسر الجنديين فرصة مواتية لتنفيذها. وقبل أن تدرك الإدارة الأمريكية فشل العملية أو أنها على أقل تقدير لن تنجح في تحقيق أهدافها، سارعت بكل بجاحة وغرور إلى الحديث عن شرق أوسط جديد سيفرض على المنطقة. فقد كانت توقعاتها أنه خلال أيام قلائل سيتمكن الكيان الصهيوني من القضاء على المقاومة اللبنانية وتأليب الشارع اللبناني عليها وتحميلها مسؤولية ما تعرض له لبنان من تدمير، ما يفتح الباب على مصراعيه لتنفيذ مخططاتها في لبنان، إلا أنها فشلت كما فشلت من قبل في توقعها بأن تجويع الشعب الفلسطيني ومحاصرته سيجعله يتخلى عن حماس ويتراجع عن خيار المقاومة، ويقبل بأن تختار له إسرائيل من يمثله ويدافع عن قضاياه المصيرية. فالمقاومة في فلسطين ولبنان تمثل في نظر متطرفي واشنطن وتل أبيب العائق الأخير أمام تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد، لذا يجب القضاء عليها وتحييدها. ولم يتوقعوا أن تكون المقاومة اللبنانية بهذه الشراسة في صدها العدوان، وأن يكون هناك تضامن داخلي في بلد مزقته الطائفية، ورفض شعبي عالمي لهمجية إسرائيل وسياسة العقاب والتدمير الشامل.
هذا الواقع جعل الإدارة الأمريكية تخفض من سقف طموحاتها وتراجع موقفها وتبدأ الحديث عن وقف لإطلاق النار الذي كانت ترفضه قبل أيام قليلة، وبدلا من تهيئة الأجواء لبزوغ فجر شرق أوسطي إسرائيلي جديد خلقت واقعا مختلفا تماما سيعيد هذا المشروع إلى الرف سنوات عديدة، فالشارع العربي تسوده حاليا روح جديدة مفعمة بالرغبة في الانتقام والمقاومة، ورفض لكل مشاريع الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة. وبدلا من التسريع في عملية نزع سلاح حزب الله أكدت هذه العملية الحاجة إلى بقاء هذا السلاح، فإسرائيل قادرة متى شاءت ولأي سبب تافه أن تعيث فسادا في لبنان وتحيله إلى ركام، وما لم يمتلك لبنان قوة ردع تجبر إسرائيل على دفع ثمن باهظ لعدوانها، فإن إسرائيل لن تكتفي بالاعتداء عليه فقط بل وستستبيحه وتحيله إلى ساحة لعملائها ورجال استخباراتها. ومن المؤكد أن حزب الله لن يقبل بعد انتهاء هذه الأزمة أي نقاش حول إمكانية نزع سلاحه، فمؤيدوه في الجنوب اللبناني هم أكثر إدراكا من أي وقت مضى بحاجتهم إلى المقاومة للدفاع عنهم، والجيش اللبناني كغيره من جيوش الدول العربية لن يقدر على مواجهة هذا العدو الغاشم حتى لبضع ساعات لا لأسابيع، وسجل حزب الله في البعد عن استخدام سلاحه في النزاعات الطائفية اللبنانية قد يضمن حدوث توافق داخلي أوسع لمقاومة نزع سلاحه.
هذا الإخفاق في استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة سيجعل من المستحيل تنفيذ مخططاتها الخاصة بما سمته الشرق الأوسط الجديد، فالتجارب الديمقراطية في العالم العربي أكدت للولايات المتحدة أن النظم البديلة المنتخبة ديمقراطيا هي أشد عداء للولايات المتحدة وأكثر حرصاً وإخلاصا للقضايا الوطنية والقومية، وستكون في مواجهة دائمة مع أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، المرتكزة على تقديم المصالح الإسرائيلية حتى على المصالح الأمريكية العليا. وما تكنه شعوب المنطقة من عداء للولايات المتحدة بسبب دعمها غير المحدود للكيان الصهيوني ولجميع أشكال الظلم والاستبداد، يعني أن الولايات المتحدة ستبقى أكبر عدو لحرية وديمقراطية الشرق الأوسط حتى لو تشدقت كذبا وزورا بغير ذلك، ولن يأتي اليوم الذي تجد فيه الولايات المتحدة أن مصلحتها تخدم من خلال شرق أوسط تعمه الحرية والديمقراطية.