النظم التعليمية العربية .. ممارسات قاتلة

<a href="mailto:[email protected]">Atrairy@Ksu.Edu.SA</a>

تبلغ الطالبة آلاء الخامسة عشرة من العمر وتدرس في المرحلة الإعدادية في محافظة الدقهلية في مصر, صدر قرار ترسيبها في مادة اللغة العربية وإيقافها من الدراسة مدة عام عقاباً لها على موضوع كتبته في مادة التعبير تناولت فيه سياسة الرئيس بوش العالمية وممارساته العدوانية في أنحاء العالم كافة, خاصة ممارساته الموغلة في التوحش والحقد والكراهية في كل من العراق وأفغانستان ومساندته ودعمه ما يحدث في فلسطين من قبل الإسرائيليين.
هذا الموضوع الذي كتبته آلاء ببراءة الطفولة لم يعجب المسؤولين في الجهاز التعليمي في المحافظة لأنها, وكما ورد في تبريراتهم, خروج عن المعقول وتجاوز للمنطق, ما دفعهم إلى التحقيق معها لأنها في هذه السن وتفكر بهذه الطريقة, لا بد من معاقبتها, ووضعها على قائمة المشبوهين الذين يلزم متابعتهم والتحري حولهم, وهذا ما حدث بالفعل مع هذه الطالبة, حيث التحقيق تجاوز إلى معرفة المنظمات التي تنتمي إليها الطالبة!
موقف كهذا, بل حدث كبير, يفترض ألا يترك يمر مرور الكرام, كما يقول المثل, إذ المصلحة تقتضي أن نقف معه نناقشه من خلال المنظومة التعليمية في فلسفتها, أهدافها, آلياتها, ومكوناتها كافة.
هل النظام التعليمي العربي يحجر على العقل ويمنع التفكير السليم؟ ويعاقب كل من تسول له نفسه التفكير بطريقة مختلفة عما نريد؟ وهل مثل هذه التصرفات تمثل تصرفاً واجتهاداً فردياً أم أنها تمثل توجه المؤسسة التعليمية بشكل عام؟
أن يصدر قرار يرسب الطالبة ويحرمها من مواصلة الدراسة مدة عام, يؤكد أن ما حدث يمثل المؤسسة التعليمية, ولا أقول التربوية, وليس تصرفاً فردياً, فالتصرف الفردي قد يكون عقاباً ينزله الأستاذ على الطالب أو الطالبة كأن يناقشه فيما كتب, أو يوبخه أو يرسبه في المادة, لكن أن يصدر قرار, فهذا يعني أن لجاناً شكلت وأن تحقيقاً عمل, وأن توصية أو توجيهات أعطيت, ومن ثم قرار اتخذ, وهذا يتطلب تسلسلاً هرمياً, مما يعني أن المؤسسة التعليمية هي أساس المشكلة .
وحتى لا يكون الاتهام للمؤسسة التعليمية جزافياً لا بد من مناقشة الموضوع من مجموعة جوانب أولها مادة التعبير, الكل يعلم سواء من هم داخل المنظومة التعليمية أو خارجها أن هدف مادة التعبير إعطاء فرصة للطالب ليفكر بحرية, ودونما قيود توضع على عقله, فهو ليس في مادة رياضيات أو علوم يتعامل مع أرقام أو عناصر محددة لا يخرج عنها وعليه الالتزام بها, وإنما هو يتعامل مع موضوع عام يستوجب منه أن يفكر بشمولية ويطلق العنان لخياله ويتخلص من القيود التي فرضت على عقله وكبلته وشلته, مادة التعبير وجدت لتعطي الفرصة للطالب بغرض التعبير عن ذاته والحديث عن مشاعره, مهما كان نوع هذه المشاعر سواء كانت شخصية بحتة أو أسرية, أو ذات علاقة بالشأن العام والسياسة, ومثل هذا الفعل يترتب عليه فوائد جمة على الصعيدين الفردي والاجتماعي على حد سواء, فالفرد يصقل موهبة التعبير والإنشاء وينمي الخيال ويكتسب الثقة بالنفس, وتساعد المادة على تنمية لغة الفرد والارتقاء بها, واكتساب المفردات, وحسن توظيفها, كما تفيد في إعطاء الفرد الفرصة للتخلص من مشاعره بدلاً من كبتها, وتحولها إلى منغصات ومنكدات لحياته, وهذه إحدى طرق العلاج على المستوى الفردي التي يستخدمها المعالجون النفسيون، حيث يشجعون الأفراد على الحديث باستفاضة عما يريدون دون محددات أو معوقات, كما أن إعطاء الناس فرصة الحديث والتعبير بحرية تستخدم سياسياً لمنع حالة الاحتقان التي توجد عند الناس لأي سبب من الأسباب.
الطالبة لم تجمع زميلاتها وتتحدث إليهن عما كتبته, ولم تقد مظاهرة, كل ما فعلته أنها كتبت موضوعاً على ثلاث صفحات حول موضوع يؤرقها ويؤرق الملايين من الناس في كل أنحاء العالم, من الذي لا يؤلمه ما يحدث من قتل ودمار, وسحق للإنسانية بكل معانيها, ومن الذي يرضى بما تمارسه الولايات المتحدة؟! ثم ألم يعلم المسؤولون في الجهاز التعليمي في محافظة الدقهلية أن الرئيس بوش يعارضه شعبه, وتقام المظاهرات المنددة بسياساته أمام البيت الأبيض وفي المدن الأمريكية كافة؟ بل إنه قوبل بالمظاهرات عند زيارته فيينا.
السياسة الأمريكية وسياسة بوش انتقدت في البرامج الإذاعية والتلفزيونية وعلى صفحات الجرائد, كما انتقدت من على المنابر السياسية, وفي هيئة الأمم المتحدة, ولم يقم أحد بمعاقبة هؤلاء المنتقدين.
أفهم وأقدر للطالبة تعبيرها الصادق عن أفكارها, ومشاعرها لأنها تكون بذلك قد عبرت عما يشعر به الكثير من الناس, لكني لا أفهم أن يتحول المسؤولون في المؤسسة التعليمية إلى ملكيين أكثر من الملك أو بتعبير أدق إلى بوشيين أكثر من بوش نفسه.
ليعلم المسؤولون في محافظة الدقهلية أنه في أمريكا التي دافع عنها قرار المؤسسة التعليمية وعاقب الطالبة من أجلها بحرمانها من الدراسة مدة عام كامل, توجد مؤسسات تعنى بالموهوبين, ورصدت ميزانيات ومنح لاكتشافهم ورعايتهم والاهتمام بهم, كما تطبق برامج إثرائية تنمي مواهبهم وتطورها لمصلحة المجتمع الذي ينتفع بأفكار ومواهب هؤلاء الأفراد, فهم استثمار يصعب تعويضه إن هم أحبطوا أو تأخر الوقت في اكتشاف مواهبهم والاهتمام بها, وحري أن نهمس في أذن المؤسسة التعليمية أن الموهبة لا تقتصر على مجالات العلوم المادية, بل إن العلوم الإنسانية يشملها مجال الموهبة وكان حري بهؤلاء المسؤولين أن يأخذوا بيد الطالبة ويشجعوها فقد تكون صحافية لامعة أو محللة مقتدرة ولا أقول سياسية بارزه لأن السبب في عقابها سياسي بحت.
هذا الحدث كما قلت يكشف عوار المؤسسة التعليمية بكاملها, وهو في الوقت ذاته مؤشر خطير على ترديها, وتراجعها بدءاً من المعلم أو المعلمة التي ساءها ما كتبته الطالبة حتى أبلغت إدارة المدرسة, التي بدورها أبلغت الإدارة التعليمية, وانتهاء بقمة الهرم التعليمي الذي أجاز هذه الممارسة في حق الطالبة, هذا الحدث إدانة للمؤسسة التعليمية التي رضيت أن تغير دورها التعليمي إلى الدور البوليسي الذي تمارسه بحق عقول غضة تحتاج إلى الدعم والتشجيع والمساندة وليس العقاب, والتشهير, وقتل العقل دونما ذنب ارتكبته سوى أنها عبرت عن أفكارها ومشاعرها حيال قضية شغلت العالم سنوات, مورس فيها الإرهاب, والقتل بحق العزل والآمنين. إن هذه الممارسة جناية في حق المؤسسة التعليمية, وإدانة لمن ينتسبون إلى الجهاز التعليمي انتساباً رسمياً, يفتقد الانتساب الحقيقي الذي يستوجب الفرح بمثل هذه البراعم وإيجاد البيئات التي تنميها, وتغذيتها التغذية النفسية والتربوية المناسبة بدلاً من قمعها وقتلها في مهدها.
إن نظاماً تعليمياً يمارس مثل هذه الممارسات حري أن تكون مخرجاته خائفة مذعورة مترددة غير قادرة على التفكير الصحيح, وفي وضع كهذا لا يمكن أن نحلم بأمة قوية لأنه طالما كبت الفكر وقتل في مهده, ومن قبل من أسندت إليهم مهمة التعليم, فالنتائج ستكون وفق مقدماتها, ومن يزرع الشوك لن يجني إلا شوكاً, ولن يجني عنباً. إن مناخاً تعليمياً يشرف عليه أفراد يفكرون بصورة بوليسية لا نتوقع منه إبداعاً, فالإبداع يحتاج إلى ثقة وحرية وتشجيع, وليس إلى تحقيق ونظرة اتهام. ومع أن الرئيس محمد حسني مبارك تدخل لإنصاف الطالبة إلا أن هذا لا يحل المشكلة, فالمشكلة في الأساس هي في النظام التعليمي, والعقول التي تعمل فيه وتديره, فقتل الإبداع وتثبيط النوابغ من الأطفال والطلاب سيستمر طالما أن من توكل إليهم مهمة التعليم يقومون بدور المعلم والجلاد في الوقت ذاته. إن النظام التعليمي بحاجة إلى مراجعة وتقييم ينتهي إلى عملية تقويم وإصلاح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي