الصناعات البتروكيماوية في المملكة .. ماذا أعددنا للمستقبل؟
بدأت صناعة البتروكيماويات فعلياً في المملكة مع تأسيس العملاق الصناعي "سابك" عام 1976م فبدأ حينئذٍ توالي الشركات البتروكيماوية العالمية، مثل" "إكسون موبيل"، "شل"، و"ميتسوبيشي" لعمل شراكات استراتيجية مع شركة "سابك"، ما ساعد في تفجير هذه النهضة في المملكة، وحينها قالت إحدى الصحف الأوروبية الشهيرة (إن كلمة جديدة قد أضيفت للقاموس، وهي كلمة "سابك" وهي تعني الشركة السعودية للصناعات الأساسية، ولكنها تعني لصنّاع البتروكيماويات الأوروبيين المتاعب).
تنبأ الأوروبيون بقوة هذا الصرح، وأن زمان احتكارهم هذه الصناعات قد ولّى إلى غير رجعة، فنسمع الآن من بعض التقارير عن توقع إغلاق بعض مصانع البلاستيك في الغرب واستيرادها بدلاً عن ذلك من الشرق الأوسط، ويتوقع المراقبون أن تتحول الولايات المتحدة وأوروبا الغربية من مصدّر للبتروكيماويات إلى مستورد بحلول 2010، فتضاءل إنتاج الولايات المتحدة من مادة الإيثيلين لينزل إلى ما يقارب 24 في المائة من مجمل الإنتاج العالمي بعد أن كان 30 في المائة، وكذلك فإنه من المتوقع أن يتضاءل أيضاً إنتاج أوروبا الغربية من الإيثيلين ليصل إلى 17 في المائة من الإنتاج العالمي بعد أن كان يمثل 21 في المائة. وهذا يؤكد بداية انحسار صناعة البتروكيماويات في أوروبا والولايات المتحدة، حيث من الصعوبة بمكان المنافسة مع الصناعات البتروكيماوية الموجودة في دول الخليج العربي. والأجمل من هذا كله أن الشركات البتروكيماوية السعودية بدأت في الانتشار في أوروبا في نقلة استراتيجية ونوعية حتى تكون قريبة من الأسواق الأوروبية، واليوم تنتج "سابك" نحو 2.6 مليون طن من البتروكيماويات من مصانعها الأوروبية. وبعد تأسيس "سابك" توالى الإعلان عن الشركات البتروكيماوية المختلفة يوماً بعد يوم.
لا شك أن تخطيط الدولة لهذه الطفرة البتروكيماوية في المملكة قد جاء بعد دراسات مضنية وإرادة قوية لضخ مليارات الريالات في هذه الصناعات التي حوّلت المملكة من مستورد للبتروكيماويات إلى واحدة من أكبر مصدريها في العالم في 20 سنة فقط. ولا يخفى على أحد دور هذا القطاع البارز في التنمية، حيث وفر فرص عمل ممتازة ذات عائد مادي أكثر من رائع لعشرات الآلاف من السعوديين، حيث يعتبر قطاع البتروكيماويات في المملكة ثالث أكبر قطاع بالنسبة للنمو ولتوفير اليد العاملة بعد قطاعي النفط والغاز.
ونستطيع القول إن قطار التنمية هذا بدأ من الجامعات والكليات الصناعية السعودية، وذلك بتدريب وتهيئة الشباب السعودي في القطاعات الهندسية المختلفة من كهربائية وميكانيكية وكيماوية، وأدت الكليات الفنية والتقنية دورها في تدريب فنيين لتشغيل هذه المصانع وصيانتها.
ووصل تصدير البتروكيماويات في السعودية إلى أنحاء العالم كافة ليصل إلى نحو 7 في المائة من إنتاج العالم للمواد الأساسية والمتحولة، وارتفع نسبة ما تم تصديره من البتروكيماويات عام 2004م إلى 67 في المائة من كل صادرات المملكة من المواد غير النفطية، أي عدا النفط ومشتقاته والغاز.
بمعنى آخر، إذا وضع النفط ومشتقاته جانباً، فإن صادرات المملكة من البتروكيماويات تأخذ نصيب الأسد، وبالتالي فهي مفتاح رئيسي من مفاتيح تنويع مصدر الدخل ورافد مهم ومتجدد إلى جانب الرافد النفطي.
ومع دخول أرامكو السعودية مجال الصناعة البتروكيماوية في كل من مدينتي رابغ ورأس تنورة، والتوسعات الهائلة التي تقوم بها "سابك" لمصانعها، إضافة إلى التوسعات للشركات البتروكيماوية المهمة الأخرى مثل المجموعة السعودية للاستثمار الصناعي وغيرها، فإنه من المتوقع أن يضاعف النمو في إنتاج البتروكيماويات في المملكة بحلول عام 2010، ومن المؤمل أن يقود هذا إلى نقلة نوعية ونهضة في حياة المواطن السعودي.
وختاماً لا شك أن الصناعات البتروكيماوية قد أسهمت بشكل كبير في نهضة المملكة الصناعية، وزادت الدخل القومي للمملكة بشكل يجلب الفخر لكل سعودي، وهنا أود أن أتساءل مع أصحاب هذه الصناعات: ماذا أعدوا للمستقبل؟ فكما هو معلوم، إن الصناعات البتروكيماوية ديناميكية وشديدة التغير، وأبسط مثل على هذا التغير ما أصاب مادة MTBE وكيف تغير الطلب العالمي على هذه المادة لأسباب بيئية.
وأقف هنا متسائلا: هل يجب الاستمرار في التوسع في الصناعات البتروكيماوية التقليدية، وأعني هنا صناعة البولي إيثيلين والبولي بروبلين والجلايكول وغيره من المواد المعروفة وكلنا يعلم أن معظم الدول تشهد توسعات هائلة أيضاً في هذه المواد؟ فلو أخذنا صناعة البولي إيثيلين على سبيل المثال، فمن المعلوم أن هذه المادة تدخل في صميم حياتنا اليومية، وأن الطلب العالمي عليها في نمو مستمر. وفي عام 2000 كان الطلب نحو 50 مليون طن، واستمر الطلب في التزايد بشكل عام ومن المتوقع أن يصل إلى نحو 85 مليون طن بحلول عام 2008م. وكذلك فإن أسعاره أيضاً شهدت تذبذباً كبيراً، ففي عام 2000م وصل سعره إلى 55.5 سنت للرطل ثم هبط عام 2002م إلى 38.4 سنت للرطل، وفي تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2006م الحالي من المتوقع أن يصل سعره إلى نحو 62 سنتا للرطل وذلك بسبب زيادة الطلب عليه وارتفاع أسعار النفط والغاز. ونتيجة لذلك تشهد المنطقة حالياً توسعات هائلة لإنتاج هذه المادة بقيادة السعودية وإيران وقطر، حيث من المتوقع أن تزيد المملكة إنتاجها عام 2008م بـ 2.350 ليصل إلى نحو 6.6 مليون طن. كذلك إيران ستزيد إنتاجها ليصل إلى 3.4 مليون طن، وسيقترب إنتاج قطر من البولي إيثيلين إلى المليون طن سنوياً عام 2008م أيضاً.
كل هذا يعتبر نتيجة طبيعية لزيادة الطلب العالمي المتوقع، لكن السؤال: هل من الأفضل الاستمرار في التوسع في هذه المنتجات التقليدية أم البحث عن منتجات حديثة أخرى؟ ولا بد من ملاحظة أن زيادات الإنتاج الكبيرة لأي مادة قد تؤثر في السعر، وبالتالي على ربحية الشركات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الصين، وهي من أكبر مستهلكي البولي إيثيلين في العالم، تشهد أيضاً بعض التوسعات في زيادة طاقتها الإنتاجية من البولي إيثيلين، ولكن ستبقى هناك فجوة بين إنتاجها وحاجتها، وهذه الفجوة تقدر بنحو 4.5 مليون طن لصالح الطلب، ويتوقع الخبراء أن يقل هذا الرقم مع تطور صناعة البولي إيثيلين في الصين.
باختصار، إنَّ ما وصلنا إليه في الصناعات البتروكيماوية التقليدية رائع بكل المقاييس ويستحق الإشادة، ولكن ما أريد قوله هو إنه في وسط الزحام الشديد قد يكون من المجدي نفعاً سلك طريق آخر أقل ازدحاماً وربما أكثر وعورة في البداية. فمثلاً تصنيع المواد الكيماوية الدقيقة Fine Chemical ذات العوائد الربحية الكبيرة قد تكون إحدى هذه الطرق، مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة الحصول على بعض التقنيات اللازمة، ولكن مع المثابرة والكثير من البحث والتطوير وعقد الشراكات الاستراتيجية المناسبة مع الشركات العالمية التي تمتلك التقنيات المتطورة من الممكن أن تثمر كل هذه الجهود في المستقبل.
أيضاً التفكير الجدي بالشراكة التجارية مع الآخرين ربما يكون قد حان وقته، فمثلاً لماذا يصدر للصين نحو 70 في المائة من البولي إيثيلين كمادة خام، ثم تقوم الصين بتصنيعها إلى مواد نهائية ومن ثم تصديرها إلينا وإلى العالم أجمع، ما جعلها ومع عوامل أخرى صاحبة أعلى نمو اقتصادي.
هل من الممكن أن تقوم هذه الصناعات النهائية في المملكة ولو على مراحل وببطء شديد ؟
الأسواق العالمية وصناعة البتروكيماويات لا ترحم، ولا مكان للضعيف فيها، ووجود الثروات النفطية والغازية فقط لا يكفي من أجل المنافسة طويلة الأمد مع الدول الصناعية الكبرى، لذلك يجب على دول الخليج أن تملك التقنيات الحديثة أو تشارك في ملكيتها لبيع منتجاتها البتروكيماوية كمنتجات نهائية وحديثة ذات قيمة أعلى، وعندئذٍ تصبح طفرة البتروكيماويات طفرتين.
أكاديمي متخصص في صناعة تكرير النفط والبتروكيماويات ـ الظهران
<p><a href="mailto:[email protected]">skhattaf@hotmail.com</a></p>