رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


نحن لا نكذب بل نتجمل

أمنية: أن نصل بمستويات الشفافية إلى الدرجة التي نستطيع رؤية دواخل بعضنا البعض، دون خوف أو وجل أو تخوين أو تزوير للحقائق وللعواطف والأحاسيس، وبالتالي نلغي استفادة القادر من الحصول على المعلومة وضياع المسكين ويصبح قشة تحمله موجة بحر تعلو وتنخفض به بلا حول له ولا قوة.
لا أدري لماذا تبادر إلى ذهني هذا العنوان عندما أردت التحدث عن الشفافية في أرقامنا الاقتصادية المنشورة وتلك التي يروّج لها بطريقة تجعل علامات الاستفهام تتقافز أمام أعيننا من كثرة ترديدها سواء على المستوى العام أو الخاص. لكن حتى يتكون لدينا فهم مشترك، فإن هذا العنوان هو في الأساس مقولة سمعتها في فيلم لا أذكر متى ولا أين ومن قالها من أبطال هذا الفيلم. ولكنه كان حواراً بين رجل وزوجته وذلك عندما رآها تضع الماكياج على وجهها استعداداً للخروج لمناسبة، فقال: أنتن معشر النساء ومن خلال هذا الماكياج تكذبن علينا معشر الرجال وتخدعن!!! فردت عليه "بأننا، وتقصد هنا النساء، لا نكذب، ولكن نتجمل ونجمل ما حولنا".
ولكن أرى في ذلك الأمر تشابها كبيرا لفلسفة الكثير من المسؤولين سواء كانوا من القطاع الخاص أو القطاع العام، نعم الأرقام مهمة وتعطي مؤشرات ودلائل على الكثير من المعطيات المعيشية والاجتماعية، ولكنها ليست إجابة عن الكثير من التساؤلات. وفي كثير من الأحيان تشبه هذه الأرقام حالة الميت الذي يسألك عنه أحد الأشخاص فتقول إنه انتقل إلى رحمة ربه، ويصر على القول "ولكن لا يزال صغير السن"، ولا يريد أن يفهم أنه مات. الأرقام ليست صما، والاقتصاد والمحاسبة ليسا جماداً، كما هو الحال في باقي العلوم الاجتماعية، بل فن وفن ممتع لمن يفهمهما، ويجب بالتالي عدم التعامل مع هذين العلمين بقدسية كاملة. وهناك حالات كثيرة نشاهد فيها الأرقام ممتازة حسب المعايير الاقتصادية والمحاسبية المجمدة بقصد، ولكن النتيجة عكس ذلك تماما. وهو الأمر الذي ينطبق على أكثر من 36 شركة مساهمة في المملكة بشكل مباشر وعلى باقي الشركات بشكل غير مباشر. أعتقد أن لديها تلك المشكلة، فبمراجعة بسيطة للبيانات المنشورة عنها وتصريحات مسؤولي تلك الشركات نلاحظ أن تلك الشركات لم يخلق لها مثيل، ونتائج بعضها على أرض الواقع هي في الحضيض.
وأخيرا وبعد سنوات طويلة من عمر الشركات المساهمة المحلية، وقعت هيئة سوق المال عقداً مع الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين لدراسة واقع الإفصاح في الشركات المدرجة في السوق المالية، ومعايير المحاسبة المطبقة في المملكة. وبكل أمانة فإن هذه الخطوة كنت أتمنى أن تقوم بها هيئة سوق المال منذ اليوم الأول لتأسيسها، وذلك حتى قبل تعيين موظفيها. وهو ليس حبا في هيئة المحاسبين القانونيين ولكن لو تمت تلك الخطوة لكان قد أصبح لدينا ميزان حرارة نستطيع من خلاله قياس حالة السوق بشكل سليم ولا نتركها خاضعة لآراء أفراد ما بين متفائل بشكل مفرط ومتشائم بمستقبل بعض الشركات مثلي. أوضاع الشركات حقيقة وبعد ما يقرب من عامين على تأسيس هيئة سوق المال غير واضحة مالياً، وآمل أن تكون هيئة المحاسبين القانونيين في مستوى التحدي وأعتقد ذلك، للحصول على تشخيص واضح لأوضاع الشركات جميعها نستطيع من خلالها إجراء المقارنات الأفقية والعمودية.
ومن وجهة نظري الشخصية وبناء على قراءة عامة لحالة الشركات المساهمة يمكن القول إن القطاع البنكي يأتي في المرتبة الأولى من حيث مستويات الإفصاح التي تعتبر عالمية المعايير، وذلك بحكم وجود مهنية عالية وإشراف ورقابة من قبل مؤسسة النقد. وهو القطاع الوحيد الذي نستطيع فعلياً التحدث عنه كقطاع متجانس عملياً ويمكن إجراء مقارنات واضحة على مستوى القطاع. أما القطاعات الأخرى فلا يمكن من الناحية العملية إجراء مقارنة واضحة بين شركات القطاع الواحد حتى فيما يخص قطاع الأسمنت الذي يعتبر جيدا في مستويات الشفافية إلا أنه يُعاب عليه إخفاء العديد من الأرقام وبالذات أحجام المبيعات بسبب المنافسة، كما يقولون، وهي حجة بصراحة فيها كثير من اللامسؤولية الواضحة، والغريب أن المراجعين القانونيين يختمون على صحة تلك القوائم دون وجود تحفظ مع وجود قصور واضح في تلك القوائم، وأيضا يعتبر ذلك نقطة سلبية في دور هيئة المحاسبين القانونيين في السماح للمراجع القانوني بهذا التصرف دون اتخاذ إجراء حيال ذلك. قوائم ناقصة لشركات الأسمنت، وتقرير مراجع قانوني يؤكد سلامة القوائم، وإنها تعكس بشكل عادل الوضع المالي الحقيقي للشركة.
أما القطاع الصناعي وقطاع الخدمات، فأول المواضيع أنها قطاعات مختلفة داخل قطاعين. وهي قطاعات غريبة التكوين، هناك قطاع النقل وقطاع العقار وقطاع الألبان وقطاع البتروكيماويات، وغيرها محشورة في قطاعين. أما قضية الإفصاح فحدّث ولا حرج إذا ما قمنا باستثناء عدد بسيط من الشركات التي تعمل وفق مهنية عالية وواضح ذلك على نتائج أعمالها.
وفيما يخص القطاع الزراعي وما أدراك ما القطاع الزراعي، فهو في ظني من أقل القطاعات شفافية وأكثرها غموضا في نتائجه، ويبدو أنه في حاجة واضحة إلى إعادة هيكلة رسمية، ولجميع شركاته التي تعاني من فشل إداري وفني، وهي في جميع الحالات تعتبر شركات ذات استهلاك للموارد الطبيعة "الماء" دون جدوى اقتصادية واضحة. وكلي أمل أن تعيد وزارة الزراعة النظر في وضع الشركات الزراعية وبالذات المساهمة منها.
ويبقى قطاعا الاتصالات والتأمين، ونحن هنا نتحدث عن ثلاث شركات فقط في القطاعين، وهما قطاعان منظمان بشكل جيد، لكن أمامهما تحديات واضحة في قوة المنافسة قد لا تكون موجودة في باقي القطاعات بما في ذلك القطاع البنكي الذي يمر بمرحلة تعتبر ذات تحديات كبيرة. ولا يزال كثير من المعلومات التي تفصح عنها شركتا قطاع الاتصالات يصب في خانة الدعاية والإعلان أكثر منه في خانة المعلومات المفيدة لتحديد مستقبل الشركتين. لكن، وكما قلت، أعتقد أن التحدي أمام كلتا الشركتين هو في توفير القيادات القادرة على مواجهة المستقبل وتطوير البنية التحتية لهما. وبقدر ما هنالك تنافس واضح بين الشركتين، إلا أن قدرهما أن يتعاونا معا لتحقيق النجاح في قطاع متغير بسرعة كبيرة.
ولكن التحدي المشترك أمام جميع الشركات وفي جميع القطاعات وكذلك أمام الجهات الرسمية المسؤولة عن تلك الشركات هو الشفافية والإفصاح، وتوفير العدالة للحصول على المعلومات في الوقت المناسب، ولا يكون هناك شريحة أولى وشريحة ثانية وثالثة في التدرج في تسرب المعلومات لتلك الشرائح وهو ما يحدث حتى في الأخبار التي تصدر من هيئة سوق المال وأكبر دليل على ذلك هو الإعلان عن مواعيد الاكتتابات الأخيرة من الهيئة ومعرفتنا بالخبر قبل صدوره، ومن أكثر من مصدر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي