التعليم العالي وأولوية التخطيط
<a href="mailto:[email protected]">Atrairy@Ksu.Edu.SA</a>
يمثل التعليم العالي بكافة أنواعه ومستوياته حجر الزاوية في التنمية الشاملة الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، ونظراً لهذه الأهمية فقد أولى كثير من المجتمعات أهمية بالغة في تأسيس وتطوير التعليم العالي، والتوسع فيه كماً والعناية به نوعاً. وبذل الكثير من الجهود والأموال بغرض تطويره نظراً لما لمسته من آثار إيجابية ونتائج بالغة في مناحي الحياة المختلفة. ونظراً لأن التخطيط يمثل الخطوة الأولى لأي عمل من أجل ضمان نجاحه وتطوره، لذا فإن التعليم العالي ليس استثناءً من هذه القاعدة فهو بحاجة إلى تخطيط سليم يأخذ في اعتباره المتغيرات المادية منها والبشرية ذات العلاقة، وقد حظي التعليم العالي في بلادنا باهتمام الخطة العامة للدولة؛ لكن معوقات كثيرة قد تطرأ بين فينة وأخرى مما يعرقل مسيرة التعليم العالي ويؤخرها، بل ويؤجل إلى أجل غير مسمى الكثير من المشاريع وفي هذه الحالة يحدث الكثير من الاضطراب في مسيرة التعليم وتبدأ الآثار السلبية في الظهور ولعل من بديهيات التخطيط السليم لمؤسسات التعليم العالي هو الأخذ في الاعتبار نسب النمو السكاني والاجتماعي في المجتمع، ذلك أن هذين العنصرين يمثلان مرتكزين رئيسيين في عملية التخطيط، فالنمو السكاني يكشف نسبة الرغبة في الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي في الأوساط الاجتماعية، ومن ثم معرفة التوسع المفترض تحقيقه في مؤسسات التعليم العالي بغرض مواجهة هذه الرغبة. أما النمو الاجتماعي فيبين النمو في المؤسسات والأنشطة المختلفة في المجتمع سواء كانت اقتصادية، أو صناعية، أو زراعية، أو تجارية، أو إدارية، وفي هذه المعلومة عامل مساعد لتوجيه الطلاب حسب التخصصات، والأقسام المختلفة بغرض خدمة الاحتياجات الاجتماعية في كافة المجالات وتلبية احتياجات سوق العمل.
وإزاء العلاقة الحتمية بين التخطيط السليم ونجاح التعليم العالي في تحقيق أهدافه وخدمة المجتمع الذي يوجد فيه، يلزم الأمر أن نسأل عن مدى وجود خطة واضحة، ومناسبة تأخذ في اعتبارها المتغيرات، والاعتبارات اللازمة لأي نشاط، فكيف إذا كان هذا النشاط نشاطاً تعليمياً يلامس كافة الأنشطة والفعاليات. إن بعض الحقائق التي حدثت خلال السنوات الماضية يكشف افتقار التعليم العالي في بلادنا إلى خطة واضحة يسير عليها، ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى عجز المؤسسات القائمة عن استيعاب الطلب الاجتماعي للتعليم العالي، مما يعني إخفاقاً في التوسع في مؤسسات التعليم العالي، وبما يتناسب مع النمو السكاني الذي بدوره يكشف الرغبة، والطلب على التعليم العالي، ويكفي أن نعلم تدخل الجهات العليا في البلد بغرض استيعاب أكبر عدد ممكن من الطلاب الراغبين في الالتحاق بالجامعات ومؤسسات التعليم العالي أكثر من مرة، مما يؤكد فرضية بل حقيقة افتقاد التعليم العالي خطة شاملة وعلى مدى سنوات طويلة، أما المؤشر الآخر على عدم وجود هذه الخطة فهو الخريجون من تخصصات لا يوجد لها احتياج في سوق العمل، إما لتشبعه واكتفائه من خريجي هذه التخصصات وإما لعدم وجود مجالات عمل لهذه التخصصات في سوق العمل وفي كثير من الحالات تضطر وزارة الخدمة المدنية إلى الاستفسار من الجامعات حول بعض التخصصات بهدف معرفة طبيعتها، والمهارات المتوافرة لدى الخريجين منها كي يتم توجيههم لأقرب الأعمال والنشاطات من تخصصاتهم. إن مأزق قبول الطلاب وزجهم في تخصصات ليس لها احتياج في سوق العمل بهدف إرضاء الطلاب وأولياء الأمور يؤكد عدم توافر خطة التوسع المناسبة التي تلبي احتياجات سوق العمل وترضي الناس في قبولهم بمؤسسات التعليم العالي في الوقت ذاته، كما أن هذا الإجراء يمثل مشكلة اتضحت آثارها فيما بعد، حين بدأ الخريجون من هذه التخصصات يطرقون الأبواب بحثاً عن وظائف دون جدوى، نظراً لعدم توافر مهارات ومتطلبات سوق العمل وأربابه لديهم. لقد تجرأ هؤلاء الخريجون ولاموا الجامعات التي قبلتهم في تخصصات ليست مطلوبة من قبل سوق العمل، بل وشنع هؤلاء بهذه الجامعات في المجالس ووسائل الإعلام وكأنهم ينتقمون من هذه الجامعات والمؤسسات التي قبلتهم. هل يلام الطلاب وأولياء أمورهم الذين ضغطوا بهدف قبول أبنائهم في أي تخصص كان تفادياً لأمور أخرى لا يعلمها إلا الله؟! أم تلام الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في إبقائها هذه التخصصات مشرعة الأبواب مع عدم الحاجة إليها في سوق العمل؟!! أعتقد أن الطلاب لا يلامون في التحاقهم بهذه التخصصات سواء علموا أو لم يعلموا بحاجة سوق العمل فهذه هي الفرص المتاحة لهم للتعليم وما عليهم إلا أخذ هذه الفرص واغتنامها، لكن هذا لا يعفيهم من المسؤولية، إذ إن شروط القبول في تخصصات تحتاج إليها سوق العمل لا تتوافر لديهم أو أنهم قد تخرجوا بمستويات ضعيفة من الجامعات، مما يجعل فرصهم في الوظيفة محدودة مقارنة بغيرهم من ذوي المعدلات العالية. الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ليست ملامة بشكل مباشر على هذا الوضع، فالتوسع في القبول في التخصصات المطلوبة لسوق العمل يتم حسب الإمكانات، رغم أن هذا العذر يساء استخدامه في بعض الأحيان، ولنا في بعض الكليات خير مثال خاصة تلك التي تحصر القبول في عشرات الطلاب رغم أن الحاجة لخريجيها في سوق العمل بعشرات الآلاف، كما أن الجامعات ليست مسؤولة عن التوظيف، فهي تؤهل، وتعد، وعلى المتخرج أن يبحث عن العمل في أي مكان، فهذه مهمته لكن مثل هذا الطرح قد لا يناسب مجتمعنا وهو الذي يحتضن ملايين العاملين وفي كافة المجالات فالأولوية للجامعات، ومؤسسات التعليم العالي في وضع كهذا هو سد هذا العجز وذلك بأعداد المتخصصين من المواطنين القادرين على سد الفراغ. وحيث فتح الباب للتوسع في التعليم العالي بافتتاح جامعات حكومية جديدة، وجامعات أهلية، بالإضافة إلى الجامعات الأجنبية، لذا فإن من أولويات التخطيط في هذا الشأن هو توفير العنصر البشري المؤهل تأهيلاً جيداً، والقادر على إعداد الشباب المؤهل للانخراط في سوق العمل مباشرة ودون حاجة إلى إعادة تأهيل، كما أن من الأولويات رسم خطط دقيقة للجامعات الجديدة تراعى فيها احتياجات سوق العمل من التخصصات حتى لا تكون صوراً كربونية مما هو قائم من جامعات. ومن ثم تكون مخرجاتها بلا عمل وتضاف لجموع العاطلين والمنتظرين ونكون بذلك جنينا على هؤلاء الشباب وجنينا على المجتمع بشكل عام.
إن إشكالية التخطيط للتعليم العالي لا تلام عليها جامعة أو مؤسسة بعينها لكن الملام عليها في هذه الحالة وزارة الاقتصاد والتخطيط، ووزارة التعليم العالي في المقام الأول، ذلك أن دورها الأساس هو التخطيط، والتقويم، وليس الانخراط في الأعمال الروتينية اليومية كما هو حاصل الآن، حيث أشغلت الوزارة نفسها باستقبال المراسلات وإعادة إرسالها إلى الجامعات أو من الجامعات إلى الجهات الأخرى. فهل تتخلص الوزارة من هذا الوضع الذي أدخلت نفسها فيه وتضع فلسفة عمل خاصة بها تبعدها عن الأعمال الروتينية ليقتصر دورها على الإشراف والتخطيط والتقويم للتعليم العالي على مستوى الوطن، نرجو أن يتحقق هذا.