خطاب مفتوح إلى حضرة بابا الفاتيكان: الحقيقة لا تغيب

خطاب مفتوح إلى حضرة بابا الفاتيكان: الحقيقة لا تغيب

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. نبينا محمد، وعلى جميع رسل الله، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. آمين. أما بعد:
إلى حضرة بابا الفاتيكان السيد بنديتكوس السادس عشر... المحترم .
سلام على من اتبع الهدى وأراد السلام.
لقد آلمني كثيرا، وهز مشاعري، ومشاعر المسلمين وغير المسلمين في أنحاء العالم ما تناقلته وسائل الإعلام عنكم من قولكم:
"العقيدة المسيحية تقوم على المنطق، بينما الإرادة الإلهية في العقيدة الإسلامية لا تخضع لحكم العقل. ولذا انتشر الإسلام بالسيف لا بالاقتناع العقلي، والنبي محمد لم يأت إلا بما هو سيئ وغير إنساني".
وأنا استنكر، واستغرب خروج مثل هذا الكلام من رجل دين، يعتبر اليوم عظيم الديانة النصرانية، والذي يفترض منه أن يكون داعية خير وسلام بين الناس والأديان في العالم. لا أن يكون سببا في حصول المزيد من الكراهية، والعداء، والصراع، والحروب بين الشعوب. فالعالم اليوم فيه ما يكفي من ذلك ولا يحتاج إلى المزيد.
ومهما تكن دوافع تهجم سماحتكم على الإسلام ورسول الإسلام سواء كان بسبب مثل ما أعلن عنه من قرب زيارتكم لتركيا البلد المسلم (الأوروبي)، أو كما قيل أنكم فعلتم ذلك لتزدادوا شهرة على حساب الإسلام ونبي الإسلام. أقول مهما تكن الدوافع والأسباب فإن الوقت غير مناسب لمثل هذه الفتنة بين النصارى والمسلمين.
خاصة في ظل الظروف التي نعيشها اليوم من إرهاب وعلمانية وإلحاد وعنصرية.
مما يوجب على أهل الإيمان بوجود الله أن يتحدوا لا أن يهاجم بعضهم بعضا بلا مبررات.
وأنا أنتهز الفرصة هنا وأدعو إخواني المسلمين إلى عدم الانخراط في هذه الفتنة الجديدة، وأدعوهم إلى ضبط النفس، والتعقل، فإن الله أمرنا ألا نجادل الناس إلا بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: "وجادلهم بالتي هي أحسن ".
لقد قيل قديما يا حضرة البابا: "إذا كان بيتك من زجاج فلا ترم الناس بالحجارة". لقد ادعيت وافتريت على الإسلام أنه ليس دين يعتمد أو يخضع للعقل والمنطق، وأن الديانة النصرانية تقوم على العقل والمنطق!.
وهذا غير صحيح وافتراء على الإسلام دون علم. فالقرآن المجيد كان أول كتاب يدعو الناس إلى استخدام عقولهم عند قراءته وعدم إغلاقها يقول الله سبحانه: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"، ويقول سبحانه أيضا: "كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون".
وقال سبحانه: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون".
إن القرآن والإسلام هو لا يصلح إلا لأصحاب العقول الصحيحة والسليمة.
لقد احترم القرآن العقل والمنطق الصحيح ومجدّه في أكثر من موضع. بل إن القرآن معظمه يتكون من الحوار العقلي المنطقي الصحيح مع الآخر والمخالف. قال الله تعالى: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار".
إن الإسلام وأصوله وأركان إيمانه مبنية على الوحي الصحيح، والعقل السليم، فوحدانية الله وأنه هو الخالق الرازق المستحق وحده للعبادة، وأنه أرسل رسله ليدلوا عليه لا أن يكونوا آلهة يعبدون من دونه وأنه طلب من الناس ما يطيقون ولا يشق عليهم، وأنه ليس بينهم وبين ربهم أحد يعبدونه غيره سبحانه من غير صور، وتماثيل لبشر، وحيوانات لا تضر ولا تنفع، وجعلهم سبحانه سواسية عنده لا فرق بينهم بين أبيض ولا أسود، ولا طبقات، وأمرهم بكل خير وما فيه نفعهم، ومصلحتهم في الدنيا والآخرة ونهاهم عما يضرهم، ويفسد عليهم حياتهم، وأباح لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، ووضع عنهم الآصار والأغلال التي كانت ترهقهم، وأمرهم ببر الوالدين، ومحبة الخير لبعضهم البعض، والصدقة، والصلة، والبر، والمعروف، ونهاهم عن الشر، والفحشاء، والمنكر "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" فكيف يصح أن يقال أن الإسلام لا يقوم على العقل؟.
إن الإسلام هو دين العقل الصحيح وهو دين سهل واضح بسيط في عقيدته وفلسفته ليكون في متناول الجميع ولا يكون دين تعقيد وغموض وتشويش. باختصار إن الإسلام هو دين الفطرة.
وادعيتم أن النصرانية قائمة على العقل والمنطق! فهل من المنطق لديكم والعقل مسألة التثليث مثلا، وهي أن الله ثلاثة آلهة في واحد- تعالى الله - الأب وابنه والشبح المقدس هم إله واحد آمين. ومن ثم قيام الأب وتجسده في الابن البشري ونزوله إلى كوكب الأرض ليكون سوبر مان ـ إن صح التعبير ـ وحاشا لله سبحانه وتقدس وتعالى عن كل عيب ونقص. وبعد ذلك قام هذا الإله الإنسان – تعالى الله – بالأكل والشرب والنوم والتغوط والتبول وفعل كل ما يفعله البشر غير الزواج والنكاح ولا أعلم لماذا؟
ومن ثم قتله من قبل جماعة اليهود على صليب لمدة ثلاثة أيام بعد أن أذاقوه أنواع العذاب والهوان والذل. وبعد قتل هذا الإله - حاشا لله - قامت الأموات من القبور وتشققت السماء وزلزلت الأرض والهيكل. وإلى اليوم وأنتم تأكلون لحمه وتشربون دمه!. أهذا هو العقل والمنطق؟! الذي تدعو الناس إليه يا سماحة البابا؟ وتزعم أن النصرانية مبنية عليه؟! فكيف يعقل أن دينا يخبر بكل ذلك في أول قضية وأهم مسألة وهي: من هو الله؟ وما صفاته؟. لقد انطلى هذا الكلام على عقول البسطاء حول العالم الذين يجمعون للكنيسة الملايين من الدولارات والذهب لتزداد ثراء باسم الله، بينما يموت الملايين من الجوع والفقر في إفريقيا وآسيا. بل حتى في إيطاليا نفسها.
ولكن كلامكم لن ينطلي على المؤمنين الصادقين والعقلاء والمثقفين في العالم، وفي أوروبا خصوصا التي طردتكم شر طردة من الحكم والسيطرة على حياة الناس بعد أن جعلتموها تغرق في الظلمات لعدة قرون، فقام عليكم جماهير الناس بالثورة المشهورة بعدما ملّوا من ظلمكم وقهركم واستعبادكم وجهلكم. فكم قتلت الكنيسة باسم الله من الأبرياء والعلماء في أوروبا وإفريقيا والأمريكتين وآسيا؟. وما الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش، والحرب العالمية عنا ببعيد.
كم وقفت الكنيسة وتاريخها المظلم ضد العقل والعلم والعلماء والمفكرين والأدباء والمنطق، والفلسفة، والحريات، وقتلت منهم الكثير باسم الهرطقة، والسحر. وما قصة أمثال وليم تندل وجالا ليوس عنا ببعيد.
إنه لمن العار ما حدث في الماضي وإنه لتاريخ مظلم ولكن أشد منه عارا وظلمة أن يتهم البريء بما ليس فيه، ويرمى الإسلام بالباطل والتخلف والرجعية، وأنه ضد العقل، والعلم، والمنطق. وهل نسيتم يا سماحة البابا أن أول آية أنزلت في القرآن المجيد هي "اقرأ"؟. هل نسيتم ماذا قدم الإسلام والمسلمون للعالم أجمع وأوروبا خاصة، من علوم ومعارف في شتى الميادين، وفلسفة راقية ما زلتم تستفيدون منها إلى اليوم، ولأكثر من ألف سنة من الزمان؟. هل نسيتم ما قدمه الإسلام في الطب والصيدلة والهندسة وعلم الفلك والجغرافيا والكيمياء والفلسفة؟
هل نسيتم ما قدمه أمثال الإمام الغزالي وابن رشد وابن سينا والفارابي والبيروني وابن الهيثم والخوارزمي؟ فهل كان كل هؤلاء يؤمنون بدين لا يعتمد على العقل والمنطق أو كان لا عقل لهم؟. وغيرهم كثير ممن تعج بهم جامعاتكم ومصانعكم ومستشفياتكم ومختبراتكم من أبناء المسلمين المهاجرين في الغرب. لقد ظلمتم الإسلام والمسلمين بدعواكم يا حضرة البابا وألغيتم تاريخ هداية وحضارة للإنسانية استمرت لعدة قرون من الزمان. أثمرت الخير الكثير للناس، وانظر إلى آثارها في العالم، وفي بلاد الأندلس على وجه الخصوص في قرطبة وغرناطة والحمراء وغيرها.
وأما قولكم أن الإسلام دين السيف والعنف والقتل وبه انتشر فهذه فرية أخرى، ودعني أوضح لك الحق في ذلك.
فهل من العنف ودين السيف أن يأمر الله أتباعه في القرآن الكريم بقوله "لا إكراه في الدين"؟ هل من العنف والسيف مثل قوله تعالى "لكم دينكم ولي دين"؟ وقوله سبحانه "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".هل من العنف قوله تعالى "أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا". وأما الجهاد فهو مشروع للدفاع عن النفس، والدين، والعرض، ولا يكون إلا لمن اعتدى. قال سبحانه في القرآن المجيد: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين". وقال سبحانه: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، وقال سبحانه أيضا: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين". وقال الله سبحانه لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين". والمعنى أي لا تكره الناس حتى يسلموا. فإنما هو كما قال سبحانه "إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر". والغريب أن كلمة سيف لم تذكر في القرآن أبدا، بينما تكررت في الكتاب المقدس كثيرا. وما فعله بعض المسلمين من إرهاب وقتل وعنف بغير حق إنما يحسب عليهم هم لا على الإسلام، فإن الإسلام من ذلك براء. وقد خالفوا نصوص القرآن العظيم. يقول تعالى: "ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق". لقد انتشر الإسلام أيها البابا بسماحته وتعاليمه الحسنة. إن المسلمين لم يذهبوا إلى إندونيسيا ولا أمريكا مثلا بجيوش! فما الذي نشر الإسلام هناك؟ هل هو السيف والإكراه؟ أم هو العقل والمنطق والدعوة الحسنة؟ ولا أدل على سماحة الإسلام وعدله، من وجود العدد الكبير من النصارى اليوم بين المسلمين وكنائسهم التي تعود إلى تاريخ ما قبل الإسلام. فلو كان الإسلام دين عنف وسيف وعدم احترام للآخر ولا حرية دينية فيه، لما بقوا وبقيت كنائسهم، كما حصل للمسلمين في بلاد الأندلس عندما أبيدوا وهدمت مساجدهم وحولت إلى معابد وكنائس. ولما بقوا ولأبيدوا كما أبيد سكان الأمريكيتين الأصليين أمثال الهنود الحمر على يد النصارى الغزاة.
لقد رميتم الإسلام بما هو فيكم وليس فيه. وإذا أردت أن تعرف حقيقة ما هو دين العنف والسيف والإكراه، فانظر إلى تاريخكم وكتابكم المقدس الذي يأمر بقتل الأبرياء والأطفال والنساء ! لا لشيء ! إلا لمجرد أنهم غير يهود أو يؤمنوا بما يؤمن به اليهود.
جاء في سفر العدد (31/ 1-20) أمر الله لنبيه موسى عليه السلام أن يقوم – بزعمهم – بقتل النساء، والأطفال، والأبرياء. وجاء أيضا في سفر صومئيل الأول (15/3-4) ما يلي: "ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة. طفلا ورضيعا. بقرا وغنما. جملا وحمارا". فهل هذا هو كلام الله البر الرحيم الذي تتكلمون عنه في ديانتكم النصرانية اليوم أيها البابا؟.
وجاء عن المسيح عليه السلام في كتابكم وزعمكم أنه قال كما في إنجيل لوقا (19/27): "وأما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأحضروهم إلى هنا واذبحوهم قدامي". وفي لوقا (12/49): "جئت لألقي نارا على الأرض". وغير ذلك من الآيات الفظيعة التي تدعو إلى قتل الأبرياء والعنف والفساد في الأرض، ولولا حب عدم الإطالة لذكرتها لكم وأنتم أعلم بها مني، ولكن لا مانع من الإشارة إليها للتذكير فقط. انظر مثلا: صموئيل الأول (18/25-30)، ويشوع (6/20-21)، ومتى 15/21-29، و متى 7/12، و التثنية 7/1-10، و حزقيال 9 / 4- 7. ويشوع 8 / 1-30. التثنية 12/ 1-11 ويشوع 10/24 وتكوين 34/ 1- 29، وتثنية 2/ 32-36. والعدد 25/2 و صموئيل الأول 15/2-3 والتثنية 3/2-7. كل ذلك وغيره كثير.
فلعل فيها إيضاح من هو في الحقيقة الذي يدعو ويعلّم العنف وقتل الناس والأبرياء. لقد جاء في المثل العربي القديم: "رمتني بدائها وانسلت".
أرجو من حضرة البابا أن يعيد النظر فيما قال، وأن يعود للحق، وأن يقبل على تعلم الإسلام. وأنا أدعوه لذلك كما دعاه الله من قبل في القرآن الكريم: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله". فهذا هو الحق والصدق والمنطق والدعوة إلى الحوار الهادف البناء. وأدعوه وأدعو أهل الكتاب جميعا بما دعاهم الله سبحانه: "يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون".
أسأل الله - عز وجل - أن يهدي البابا إلى الحق، ويصلح حاله، وأن يشرح صدره للإسلام، كما أسأله سبحانه أن يحمي الإسلام والمسلمين من شر وكيد أعدائه. وأسأله سبحانه أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن ينشر السلم والسلام في الأرض، وأن يوفق المسلمين لنشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يوحد صفوفهم ويعلي كلمتهم. وصلى الله وسلم، وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين. آمين.

الأكثر قراءة