إسكان الفقراء والاستفادة من البحث العلمي والتجارب العالمية
<p><a href="mailto:[email protected]">alfaizdr2@yahoo.com</a> </p>
كتبت فيما سبق عن إسكان الفقراء وما هكذا تورد الإبل. وتطرقت إلى ما دأبت عليه معظم دول العالم والبنك الدولي لإيجاد حلول لمشاكل الفقراء, خاصة الإسكان وما فشلت جميعها في تحقيقه. والسبب أن مشاكل الفقر لا يحلها توفير الإسكان وإنما التخطيط للرفع من مستوى الفقراء وتأهيلهم للعمل والاعتماد على النفس وبشرف وفق خطة مستقبلية لتطويرهم وتفعيل دورهم في المجتمع وتعليمهم المشاركة في بناء مساكنهم. ومحاولة تفهمنا ظاهرة الفقر وجذورها والتخطيط لإشراك الفقراء في عملية بناء مساكنهم. فالفقراء, كظاهرة اجتماعية, لهم جذور وأوضاع ومسببات مختلفة, ويحب أن تتم معرفة أعراضها وأسبابها وتشخيصها قبل إيجاد العلاج. لذلك فإن أهم ما يجب أن نقوم به هو محاولة جمع المعلومات الديموجرافية عن تلك الشريحة, خاصة المعلومات والخلفيات الاجتماعية والنفسية. وذلك يتسنى عن طريق البحث العلمي المهني الذي يقوم على أسس إحصائية سليمة, وليس بالطريقة المتبعة حالياَ من بعض المجتهدين الذين يجهلون أن هناك علما اسمه الإحصاء فيقومون بكتابة استبانات ليست مبنية على أسس علمية لطريقة صياغة سؤال وطريقة الحصول على المعلومة وكم الثقل والوزن أو الدرجة المطلوبة للحصول على المعلومة. حيث إن ذلك له أساسيات تختلف من طريقة بحث أو نموذج حاسوبي إلى آخر. وإنه تخصص دقيق للغاية للحصول على المعلومة التي لا تشوبها الأهواء.
والبحث العلمي وحده الذي سيساعدنا على معرفة نوع الفقر الذي نعيشه في مدننا وهل هو موجود فقط لدينا؟ وهل نسبة الفقراء لدينا مساوية لغيرنا من الشعوب؟ وهل النسبة نفسها ونوعها وخصائصها مشابهة لما هو موجود في الدول الأخرى سواء الغنية أو الفقيرة؟ وهل الفقر صبغة اجتماعية أو ظاهرة لا بد أن تكون موجودة مهما كانت الدولة غنية؟ بمعنى أن هناك فئة أو شريحة من المجتمع "وجهها وجه فقر" مهما حاولنا مساعدتها فإنها ستعود إلى الفقر؟
فالبحث العلمي الدقيق وجمع المعلومات لتكون قاعدة حالية ويمكن الاستفادة منها مستقبلياَ هو تقريباَ نصف الحل. فعلاج الفقر ليس فقط بتوفير الإسكان وإنما باستئصاله من جذوره وإيجاد الحلول المتكاملة والمبرمجة لإعادة تأهيل الفقراء كمواطنين فاعلين في بناء المجتمع. وألا نحاول إعادة اختراع ما سبق أن قام بها الآخرون من تجارب وآلت إلى الفشل الذريع, وإنما محاولة الاستفادة من تجاربهم وهفواتهم. لقد قام العديد من الدول وقبلنا بعقود طويلة بتوفير برامج ومبان كإسكان للفقراء ومن أشهرها ما بنته ثم قامت بهدمه الولايات المتحدة من مجمعات سكنية في بعض مدنها الكبيرة ( سانت لويس وويست إند) بسبب ما آلت إليه هذه التجمعات من مشاكل الجريمة والفساد والمخدرات والأمراض.
إن أهم أسباب فشل التجارب السابقة يعود إلى عدم محاولة قراءة ظاهرة الفقر وتصنيف خلفيات الفقراء لمعرفة أسباب الفقر كظاهرة اجتماعية وما مسبباته, ووضع برامج ومقاييس ومواصفات تتناسب مع كل نوعية من الفقراء وخلفياتهم الاجتماعية أو الثقافية. ومن ثم وضع برنامج علاجي لكل فئة لتطويرها ومن ثم إعادة تأهيل الفقراء ليكونوا أعضاء فاعلين ومشاركين في بناء الوطن.
ومن أكبر الأخطاء التي عانت منها التجارب السابقة هي عملية التركيز على تخصيص أحياء أو مناطق على أطراف المدن ووضع صفة أو نعتها بسمة أو بصمة STIGMA أحياء الفقراء عليها لتصبح أحياء تزدرى وتعير بالفقر وكأنما الهدف عزلهم عن بقية المجتمع وتعريفهم أو الازدراء منهم بوصفهم بإسكان الفقراء أو ذوي الدخل المحدود. وكأنما نحن نضع ونؤكد عليهم بصمة أو وصمة الفقر إلى الأبد. مما يؤثر نفسياً فيهم وفي أطفالهم ويؤدي إلى تبعيات وبيئة خصبة للجريمة أو الفساد وتجارة المخدرات.
وأنجح الحلول, في نظري, أن يتم تناول الموضوع بجدية وبنظرية التكافل الاجتماعي الإسلامي وأن يكون الفقراء وإسكانهم مسؤولية الجميع. وذلك بمحاولة دراسة الظاهرة ومن ثم محاولة تفصيل البرامج المناسبة لكل فئة لإعادة تأهيلهم كعناصر فاعلة في المجتمع. وأن يتم توزيع مساكن كل فئة على جميع أحياء المدينة بحيث تكون قريبة من الخدمات وخطوط المواصلات والنقل لتختفي هذه التجمعات وتتوزع على أحياء أكثر وبذلك يسهل على سكان الحي الواحد تبني هؤلاء الضيوف وأبناءهم ومحاولة إعادة الاعتبار لهم كمواطنين وليس فقراء ليعودوا فاعلين يتم تأهيلهم للعمل في بناء هذه الأحياء. وبحيث يشاركون في أعمال الحفر والردم والتسوية والرصف والإنارة وفق مكافأة تشجيعية. وتوعيتهم إلى أن العمل ليس عيباً وإنما فخر وبذلك يتعلمون مهنة شريفة تؤهلهم إلى إحلالهم مكان العمالة الأجنبية. وبعد ذلك يتم تأهيلهم للعمل في هذه الأحياء بمكافأة مشرفين على النظافة أو الأمن أو مراقبين للمدارس أو سعاة للبريد. والمتزوجون ينقلون الطالبات أو يفتحون دورا للحضانة وغير ذلك من المهن الشريفة, أو العمل في بعض المحال التجارية الصغيرة مثل البقالات. وقد تخلصنا من مشاكل وأمراض العمالة الأجنبية.
وليعلم الجميع أن حل مشكلة الفقر ليس مسؤولية الدولة فقط وإنما مسؤولية المجتمع. وأن سلبيات مشاكل الفقر وما يؤدي إليه من الفساد والأضرار الاجتماعية مثل الجريمة والمخدرات ستطول الجميع وستؤثر فيهم وفي أبنائهم.
لقد كانت لنا تجارب سابقة لم نستفد من تسخير البحث العلمي لدراسة أسباب فشلها مثل إسكان البلدية في الملز الذي تم هدمه, وأخيرا إسكان ذوي الدخل المحدود جنوب غرب الرياض, الذي قد يأتي الوقت الذي يتم فيه هدمه.
ولا أنسى في هذا المجال أن أخص بالذكر خبراءنا الاقتصاديين الذين لم ينجحوا حتى الآن في توعيتنا بأهمية وجود نظام اقتصادي متكامل يربط المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. خاصة ضرورة إيجاد نظام ضرائبي مربوط بالسجل المدني يساعد على معرفة مستويات الدخل ومعرفة من الذين تصلهم الإعانات من غير مستحقيها. وأن يتم ربط ذلك السجل بمصلحة الزكاة والدخل والضمان الاجتماعي وغير ذلك من القنوات التي توفرها الدولة ولكنها لا تجد القنوات الصحيحة لتحقيق الفائدة القصوى. وأن يقوم المسؤولون عن تلك الجهات بإيلاء هذه الأمور جل اهتمامهم بالتركيز على الطرق المهنية وليس الاجتهاد وإبراز صورهم في الصحف لزيارات الفقراء أو الايتام وهي مهمة سهلة الأولى أن يقوم بها بعض موظفيهم في العلاقات العامة والمتخصصون في علمي الاجتماع والنفس.
فقد انتهى عهد الحلول الوقتية التي تعالج المشكلة في وقتها دون معرفة تبعاتها المستقبلية وما يخلفه الحل أحياناً من سلبيات أكثر تكلفة على المجتمع. فالمعوقات قد تكون مشاكل اجتماعية أكثر من كونها اقتصادية لأنها مقيدة بعوامل اجتماعية بحتة, وهذا يحتم وجود الحاجة إلى البحث العلمي والتخطيط الاستراتيجي للقضاء على الفقر إذا ثبت أنه ليست ظاهرة لا بد من وجودها.