رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


غسيل مخ

<a href="mailto:[email protected]">salehshahwan@hotmail.com</a>

الآلية النفسية التي يتم بموجبها برمجة الذهن بأفكار وقناعات ومفاهيم معينة لكي يفكر ويتصرف الشخص أو الأشخاص وفقا لها، هي ما يعرف بغسيل المخ. وغالبا ما تطبق هذه الآلية في عالم الجاسوسية والمخابرات، خصوصا الدولية، كما لها استخداماتها في صراع الشركات الكبرى وبيوت المال وعصابات المافيا والأحزاب العقائدية الشمولية بالذات.
بيد أن مواطني العالم الثالث بشكل عام ونحن منهم بالتأكيد، يتعرضون لغسيل مخ على كافة المستويات، وهو غسيل من نوع آخر. فعلى مستوى العمل يتكفل بذلك الروتين والرتابة والبيروقراطية، وهي كلها كلمات تؤدي إلى عدم الاكتراث واللامبالاة أو قل البلادة في نهاية المطاف. فالموظف يأتي إلى عالم الوظيفة مملوءا بالحماس وبرغبة في التطوير والتغيير والتجديد، لكن طاحونة الروتين لا تترك له فرصة التعبير عن ذلك، عليه أن يكتب ذات الكلمات وبنفس الأسلوب ويعيد طرح الأفكار نفسها ويجند لها ما يسعفه ذهنه من المبررات لصلاحيتها حتى لو كانت معقدة كسيحة عمياء خرساء غير قادرة على الوقوف.
على المستوى الاجتماعي، تأمل كيف نتكوم في السكن حول بعضنا، كل حي تسكنه غالبية من منطقة أو جماعة أو قبيلة وبيوتنا متناسخة بالكربون، توزيع الغرف، المجالس، الأثاث، الديكور، الأواني، الأجهزة، وربما عدد العربات والخدم والحشم، نكاد نفكر بدماغ واحد وتدفعنا ذائقة واحدة، في الأكل والمآدب والأفراح والأتراح.. ذات الطعم واللون والرائحة لمباهجنا، مراتعنا وحتى أحلامنا وهواياتنا. ما إن يدشن بعضنا نشاطا تجاريا أو اجتماعيا حتى تنقلب المدن والقرى على بكرة أبيها مقلدة له، ما إن يقرر بعضنا السفر لبيروت أو ماليزيا أو لندن أو أستراليا أو جزر الواق واق، حتى نتدافع على مكاتب السفر بالذهاب إلى تلك الجهات بالذات وشطب خيارنا لكي نفعل كما فعل الآخرون.
حتى في وعينا الصحي ننجرف إلى ذات المقولات وذات المنتجات. يقال لنا عن منافع الثوم، الزنجبيل، الحلبة، الجينكا، الجرجير، السبانخ، زيت السمك، وغيرها فتمتلئ أفواهنا ومعداتنا وثلاجاتنا بها. يقال لنا عن الطب البديل والدواء الطبيعي البديل فنهرع لتجار الدجل من مستغلي الظاهرة باسم الطب الصيني، الكوري، الياباني، الهندي، ننقاد لهم، نشرب بحيرة من الماء، أو نلتهم مزرعة من العنب، أو الجريب فروت ... إلخ.
كما نعبئ صيدلياتنا المنزلية بمنتجات شركات الصيدليات البديلة ونجد على أرففها ما نشاء، ما هو مضاد للأكسدة، وما هو مقو للباءة، وما هو للشعر أو للأعصاب أو للمخ أو للبهجة وطرد الكآبة أو للنوم أو للطاقة .. يسرح فينا ويمرح هؤلاء مستغلين قابليتنا اللا نهائية لغسل المخ، حتى إن سيدة ذات برنامج مشهور على إحدى الفضائيات، ليس لديها من العلم في الغذاء والطب غير تطفل على أطرافه سحرت الناس وحولتهم في يوم وليلة إلى متسابقين في سيرك هزلي لالتهام "كمشات" القمح والحنطة والشعير وما ضاقت به مخازن العطارين من نباتات وأعشاب.
أليست هذه كلها أنواعا من غسيل المخ، تتولى قيادتها الرتابة والاعتياد والتقليد والخوف من الجديد والغريب، لأن لسان حالنا يقول: "ما يسوي الناس سويه!!"؟ صحيح أن لدى كل الأمم نزعات للتقليد تمثل ملامح من الهوية، لكن الأصح أنك لا تجد إيقاع العمل وأسلوبه وقاموسه في مكتب عمل يشبه الآخر. بل إن المكتب نفسه لا يكرر أسلوب عمله وصحيح أن لمظاهر بيوتهم الخارجية تشابها حسب كل حي وحسب كل شارع، لكن ذلك لإكساب هويات شكلية للأمكنة من الخارج فقط، أما الداخل فلا أحد يستنسخ الشكل نفسه.
ليس المقصود من هذه الملاحظات النيل من عقولنا وأذهاننا ففينا من هو أشد عبقرية وأكثر إبداعا وأروع أداء وأرهف حسا إنما المؤسف أن معظم ذلك "موقوف التنفيذ" بفعل غسيل المخ الذي استمرأنا نحن الاستسلام له حتى لا نكدر نفس مديرينا أو أهلنا أو أصدقائنا أو عشيرتنا أو قبيلتنا أو زملائنا وحتى "نسلم من وجع الراس" مع أننا أكثر الناس استهلاكا للبنادول!!
والحل؟! .. أن نجرب أن نكون مختلفين، ليس من باب "خالف تعرف" وإنما من باب التصالح مع الذات والثقة بها وتقديرها حق قدرها فارتهانها لمزاج ورأي وتصورات الآخرين إصرار في الإدمان على غسيل المخ .. وهذا الغسيل هو ما يجعل منا كالمنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي