من أين يجيء الحزن إذاً؟
<a href="mailto:[email protected]">salehshahwan@hotmail.com</a>
هدف التربية تحقيق السلام الداخلي. هذا يتطلب إشباعا عاطفيا وعقليا. علاقات الطفولة في سنواتها الست الأولى ركيزة كل ذلك. هكذا يقول علماء النفس, لكن ماذا عنا نحن الذين لم يكن أهلنا يدركون ذلك لأنهم في الأساس كانوا نتاج عصر شحيح بالرزق والعلم.
كبرنا مغموسين بعرق الخوف علينا أو تخويفنا ولم تقل لنا مدارسنا كيف نتصالح مع أنفسنا ولا كيف نصبح آباء وأمهات؟ جربنا التماهي مع المتحضرين المتمدنين. أسلسنا كلماتنا قمنا بتنعيمها وتأنيقها ومع ذلك نفاجأ ببركان الصراخ ينفجر منا في وجوه أطفالنا وفي وجوه بعضنا البعض لأسباب نعرفها ولا نعرفها.
مأزومون نحن, داخل كل واحد منا قدر كبير من الدماثة النظرية والحضارة الظاهرية, إنما لا تفلح في كبح ما نتمرغ فيه من إحساس بالملل, وخواء المعنى. الاهتمامات, الكلمات, والحوارات تتآكل وتتكدس أكوام الزهق في دهاليز الروح وفي مجرى العروق .. فمن أين يجيء الحزن إذاً؟
من عدم درايتنا بأن حالات الزهق والتأزم فينا أعراض بشرية ثم من عدم وجود من يأخذ بأيدينا لكي يسحبنا من هذه الآبار الدامسة يصعد بنا إلى أرض السماحة والصفاء. فلا نعنف أنفسنا على ما لا تستحقه من عقاب, فيما هي أحوج ما تكون إلى أن نهدي إليها المسرة ولا نعرضها لتبكيت الضمير والإحساس بالذنب واللوم على أقل الهفوات.
من يشاهد برنامج "أوبرا" أو برنامج "دكتور فيل" والنماذج البشرية التي تأتي مهدمة خائرة, ينهشها البلى والخراب, يدرك أهمية مناقشة القضايا الخاصة في رحلة صراحة ومكاشفة مع الذات, تحت بصر وبصيرة ورعاية إخصائيين يسهمون في العلاج وترميم تلك النفوس المعذبة ودمل الجراح وتطهيرها من وعثاء الكآبة والتأزم النفسي, ثم تسليحهم بالآليات والتدريبات التي تكفل لهم الخلاص من فظاعة ما يعانونه سلوكا وإحساسا.
نحن أحوج ما نكون إلى أكثر من "أوبرا" و"دكتور فيل" وغيرهما من مدربي المهارات الذاتية لأننا في حاجة إلى إعادة اعتبار للمعنى والقيم الروحية فينا.. فحالات التأزم والزهق التي نحس بها أصبحنا نسمعها أيضا من أطفالنا وهذا يعني أن خللا خطيرا في نظام القيم قد حدث.
تكاليف الحياة الاقتصادية وتعقيداتها العصرية أسباب جوهرية تصف المعضلة ولا تقدم حلولا. والاكتفاء بهذا التبرير دفن للرؤوس في التراب، فقائمة تكاليف الحياة الاقتصادية تطول ولا تقصر بفعل المطالب الاستهلاكية لنا ولأولادنا وللناس الذين نريد أن نكون مثلهم أو أحسن منهم ولو على حساب هروب النوم والطمأنينة. أما الرهان على أننا نستطيع الحد من ذلك فنوع من جلد الذات لأننا نكتشف بعد كل محاولة أننا حذفنا من القائمة أشياء وأضفنا بدلا عنها ما جعلها أطول!!
ينبغي عدم التعويل على قدراتنا الذاتية على حل جميع الأمور وإصلاح الكون. فليس في مقدور الفرد أن ينوب عن المجتمع، عن المؤسسات العامة والخاصة والمدارس والجامعات. هذا ما ليس في وسعنا أن نقوم به وهذا ما يرهقنا ويحطم أعصابنا ويملؤنا بالتأزم والزهق, بفقدنا طعم النعمة التي بين أيدينا.
فليس في وسعنا حمل عبء مناهج الدراسة حين تكون رثة تهبط بأرتال الكتب على أدمغة أولادنا الذين يحاصروننا لكي يفهموا "بالعافية" ما لا يمت للعصر بصلة أو ما مكانة فروع التخصصات في الجامعة فمقرراتنا تصر على أن تجعل من طلبة الابتدائي سيبويه وابن كثير وابن باديس وابن تيمية، وغيرهم .. وهذا كثير كثير!!
وليس في وسعنا حمل عبء عدم وجود أماكن اللهوء البريء, الحدائق العامة, المسارح, دور السينما, المطاعم العائلية, الأندية, وغيرها من ساحات صناعة المعنى وإعمار النفس بالبهجة التي تحسس الناس بحقهم في أن يمارسوا حياة طبيعية في حدود الألفة الاجتماعية وإنسانية الإنسان.
ليس في وسعنا حمل عبء الطرق والمرور والمواصلات التي تجعلنا إن رجعنا من أعمالنا لا نفكر في الخروج لأننا نصل بيوتنا أكواما من اللحم المقدد ومسامير الصداع في الرؤوس, فنحن نقود مركباتنا في حرب شوارع, ندخل من محشر سير إلى محشر ومن هلع متهورين في القيادة إلى هلع أسوأ منه، مضطرين إلى أن يكون الواحد منا سائقا عند نفسه أو عند أسرته إضافة إلى السائق الأجنبي. نحلم أن نكون في حافلة مكيفة أو قطار أنيق, مواعيدها مضبوطة, مواقعها ميسورة لا تتطلب منا إلا بضع خطوات من البيت برفقة كتاب أو معنا أسرتنا نجلس في مقاعدنا ذاهبين إلى أعمالنا أو شؤوننا الخاصة دون توتر.
ليس في مقدورنا أن نفعل شيئا من ذلك؟ لا أن نتولى إصلاح مناهج الدراسة بأنفسنا ولا أن نوفر أماكن اللهو البريء والتنزه بأنفسنا ولا أن نوفر وسائل المواصلات والطرق وسلامة المرور بأنفسنا؟ وإذا أضفنا إلى هذه هموم المرأة والشباب والأساليب والإجراءات البيروقراطية في المصالح العامة والخاصة, إلى جانب عدم وجود برامج ودور ثقافة وإعلام تفتح أذرعها لنا وتحتضن مشاكلنا وتحاورنا ونحاورها وتحس بنا وتشاركنا المشاعر ذاتها وغيرهما مما لا حيلة لنا به كأشخاص وأسر فسوف يبقى موال الشكوى ساري المفعول نرزح تحت ثقله يوما فيوما.