"أبو ريالين" يلتهم المدخرات
يبدو أن غريزة حب الاستهلاك غدت عادة متأصلة في المجتمع السعودي، بدليل انتشار المحلات التجارية، ولا سيما البقالات، ومتاجر المواد الاستهلاكية التي تبيع كل شيء، بشكل لا يوجد له مثيل في الدول الأخرى، حتى أصبح عددها يفوق عدد الأسر في المجتمع، ولو لم يكن هناك إقبال على الشراء والاستهلاك يفوق الوصف لما رأينا هذا التزاحم على افتتاح المحلات التجارية لكل شيء، وفي كل مكان !!، بيد أن هذه العادة لم تكن موجودة في المجتمع قبل عهد الطفرة الاقتصادية الأولى، أي قبل الثمانينيات الهجرية، حين لم يكن في الحي الواحد سوى دكان صغير يجتمع حوله الصبية لشراء قطعة آيس كريم مصنع بالطريقة المحلية، من الماء المجمد والسكر واللون، أو ليتراهنوا على زجاجة مياه غازية محلية على طريقة طاش ما طاش ... !!، وهذه الطريقة للذين لا يعرفونها، تتمثل في أن يتراهن اثنان من الصبية على زجاجة المياه الغازية، بعد أن يرجّوها، فواحد يقول طاش، والآخر يقول: ما طاش، ثم يفتحانها بسرعة، ويفوز بها من كسب الرهان، ويدفع قيمتها الآخر ...!!، فانظروا كيف تحولت هذه العبارة التي نطق بها لأول مرة أحد الصبية في أحد أحياء الشميسي في مدينة الرياض، كما نتذكر، إلى تراث أصبح اسماً لمسلسل شهير يعرفه كل مواطن عربي، ولكنه ربما يجهل أصل الاسم، وأصبح هذا الاسم يقوّم بالملايين، ويستأثر بنزاع كبير بين أقطابه، كل يدعي ملكيته لنفسه، ربما دون أن يدركوا أنه ربما ينازعهم في ذلك الصبية الذين كان لهم فضل اكتشافه إذا كانوا باقين على قيد الحياة!!.
على كل، هذه النقطة ليست موضوعنا، إنما موضوعنا هو أن عادة حب الاستهلاك تسللت إلى المجتمع، كما ذكرت، تدريجياً، مع سعة ذات اليد، وبقدرة الناس على الشراء، وميلهم إلى الراحة والمتعة، والاهتمام بالمظاهر، وتتبع كل جديد، حتى أصبحت مرضاً تسلل إلى النفوس ليورثها الاكتئاب، إن هي لم تلجأ إلى العلاج الذي ألفته وأدمنته، وهو الشراء والاستهلاك والاستبدال، وكمثال حي على ذلك، ما نشاهده من انجراف البعض وراء كل جديد، ولا سيما في مجال التقنية كالهواتف الجوالة التي يلهث الشباب وغيرهم وراء كل جديد يطلع فيها حتى لو لم يكن أفضل من سابقه، إنما لكي يفاخر بأنه يحمل آخر ما أنتجته الشركة..!
ولكن الشيء العجيب هو انتشار ظاهرة استهلاكية جديدة لها القدرة على امتصاص ما في جيوب الناس، وبخاصة الطبقة الفقيرة، بأسلوب لا يخلو من التضليل والخداع تلكم هي ظاهرة (محلات أبو ريالين) التي انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل لافت للنظر، وأصبح الناس يعرفونها بتزاحم السيارات ووقوفها بشكل عشوائي حولها، وصارت السمة البارزة لها هي كتابة كلمة (ريالين) بشكل مضخم على واجهاتها لتكون كافية لخداع الناس وجذبهم إليها، ليكتشفوا أن ما يباع بالريالين هو من البضائع الرخيصة، الرديئة، وأن المحل يمتلئ ببضائع أخرى تصل قيمتها المئات، تجمعها صفة واحدة هي الإبهار في المظهر والرداءة في المخبر، ليكتشف من يشتريها أنه كمن يضيع نقوده دون جدوى!!
لفتت نظري عمارة جديدة بتصميم أنيق على الشارع الرئيس المجاور للحي الذي أقطنه، وبعد اكتمالها كنت أترقب أن يفتح في المعرض التجاري الممتد على كامل الدور الأرضي، محلات ذات تنوع في الخدمات مما قد يستفيد منه الناس، خاصة بعد أن رأيت الاستعدادات تجري لتجهيزها للافتتاح، غير أنني فوجئت بوضع لافتة كبيرة عليها تبشر بقرب افتتاح أكبر محل في الرياض لبضائع أبو ريالين؟!، رغم أن هذا هو سادس محل يقام على امتداد الشارع نفسه!!
إن ظاهرة انتشار هذه المحلات، التي غزت المدن أخيرا، تعد ظاهرة غير حضارية رغم أن ظاهرها التجارة وممارسة البيع المشروع، لكنها تنطوي على بعض أساليب الغش والخداع، مما سأتكلم عنه لاحقا، ويعتبرها أصحابها فتحاً عظيماً اكتشفوه في عالم التجارة، لا يحتاج إلى عناء وجهد في اختيار التخصص ونوع البضاعة، إذ يكفي وضع كلمة (ريالين) بشكل بارز على الواجهة، وحشو ما يحصلون عليه، مما هب ودب من بضائع، ليجذب لهم أكبر عدد من المتسوقين الذين سيجدون أن ما يباع بريالين ما هو إلا طعم يستهدف اجتذابهم، وأن معظم ما في المحل ليس له علاقة بما في الواجهة، وذلك لمعرفة أصحابها أن الزبون عندما يدخل المحل لن يخرج منه إلا بعد أن يخلي جيوبه، تحت إغراء وبريق الكم الهائل من البضائع ذات المظهر الخادع والمخبر الفارغ، والخالية من أي مضمون للجودة أو الضمان والصيانة، ولا يعلم أحد كيف يحصل هؤلاء على تراخيص لبيع كل شيء!! وإذا كانوا يحصلون على تراخيص بهذا المفهوم فإن ذلك يتعارض مع مبدأ التخصص في التجارة، وفيه تعد على حقوق الغير، وإن كانت تراخيصهم مقيدة ببيع بضائع لا تزيد قيمتها على ريالين، فيجب إلزامهم بالتقيد بها!!
والناس معذورون في ارتياد هذه المحلات، خاصة محدودي الدخل، ممن يبحثون عن السعر الأقل، رغم أنهم يخسرون في الغالب نقودهم لتهالك ما يعرض في تلك المحلات، وسرعة تلفه، فضلا عن قلة الوعي، ومن هنا فإنهم أولى بالحماية والتثقيف بسلوكيات الاستهلاك والادخار...!!
إن أكثر مما تتصف به هذه المحلات من خصائص تكاد تجتمع فيها كلها هو:
1- الكم الهائل من البضائع المتنوعة التي لا تجمعها صفة ولا رابطة، وكأن أصحابها يقولون للناس: ها قد جمعنا لكم البضائع المتدنية المستوى كلها في مكان واحد.
2- أن هذا النوع من المتاجرة ينطوي على خداع وتضليل الناس، فعبارة (كل شيء بريالين) تخفي وراءها خدعة، ولا تلتزم بها تلك المحلات، بل إنها تستخدم كمصيدة لجلب الزبائن.
3- أن كثيرا من البضائع التي تباع في هذه المحلات، تكون تالفة لطول فترة تخزينها قبل عرضها، أو مقلدة لبضائع أخرى، أو مغشوشة!.
4- أن أكثر ما يصرف في هذه المحلات من بضائع هي بضائع راكدة عجزت عن تصريفها المحلات الأخرى، أو منتجو البضائع نفسها، مما يتصف بالعيوب ورداءة التصنيع!.
5- أن هذه المحلات تعد مجالا خصبا للتستر التجاري، لصعوبة السيطرة على الكم الهائل من خردة البضائع الداخلة والخارجة، وعمليات الحصر وضبط المبيعات، والشائع المتواتر أن من يملكها هو من يعمل فيها من الوافدين، بدليل عدم استخدام أي عمليات تقنية لضبط المخزون والدخل ...!!
بعد هذا أتساءل: أليس في الأمر ما يستحق الانتباه؟!، قبل أن تتحول الشوارع إلى صفوف متراصة من هذه المحلات، وتقضي على فروع التجارة الأخرى، كما هو حاصل بالنسبة لتجارة الأدوات المدرسية؟!.. مما قد يستعصي على الحل وإعادة التنظيم فيما بعد؟!
لقد طرقت هذا الموضوع لأنني أرى الظاهرة تنتشر بسرعة، ولأن معظم مرتادي هذه المحلات هم من النساء والأسر الفقيرة، والعمالة، ممن يجهلون حقوقهم، وإنني باسم هؤلاء أوجه النداء إلى الجهات المسؤولة عن إصدار التراخيص، والجهات المسؤولة عن مكافحة التستر، والغش التجاري، والرقابة على الأسواق، في كل من وزارة التجارة والصناعة، والأمانات والبلديات، وأناشدهم مراعاة حقوق المواطنين من رواد هذه المحلات، ومنع بيع البضائع المقلدة، والتالفة، والمغشوشة، مع إلزام أصحابها بعدم بيع أي بضائع تزيد قيمتها على ريالين، التزاما بالتراخيص واللافتات الموضوعة فوقها، وحماية لأصحاب المتاجر الأخرى المتخصصة، وأخيراً التأكد من عدم وجود التستر التجاري في هذه المحلات التي تنبئ طبيعتها عن توطنه فيها!!.
والله من وراء القصد.