رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


"الرَّجَّال"

<a href="mailto:[email protected]">salehshahwan@hotmail.com</a>

"الرجَّال" كلمة لا تعني "الرجل" فقط، وليست مفرد رجال ورجالات ورجاجيل، بل هي مصطلح من إنتاجنا الوطني، شامل عام غامض قد يعني بشرا أو حيوانا أو طيرا أو حشرة أو مواد جامدة أو مواد صلبة أو سائلة أو غازية وما لا يخطر على البال.
"الرجَّال" تتردد على كل لسان في كل مكان في كل فصول السنة وأيامها وساعاتها. هو ثالث اثنين أو رابع ثلاثة، ليس له شكل ولا قوام محدد، لا صوت له أو صورة أو رائحة معينة، لا يستغني عنه الوجهاء والأعيان ولا البسطاء والعامة، لا يترفع عنه العلماء ولا الفقهاء ولا يترفع هو عن أن يكون مع الجهلة والسوقة. ذو أهمية قصوى عند المجرمين واللصوص والأشرار كما له المنزلة نفسها عند الأسوياء والشرفاء والأخيار.
"الرجَّال" شفرة سرية أشبه بإشارة "موريس" في البرقيات، يعرفها الموظف الراسل للبرقية والموظف المستقبل لها. قد تكون "الرجَّال" عن أمر تافه وقد تكون عن شأن عظيم. عن ما هو مرغوب أو عن ما هو خطير. وهي "كلمة – مصطلح" يفهمها المتراسلون بها أو المتخاطبون على الطاير، لا تحتاج إلى فراسة ولا لدراسة ولا لدورات تدريبية أو دروس خصوصية، هي في الواقع أصعب من أن تخضع للتعريف وأسهل من أن نكلف أنفسنا عناء تعريفها.
أشقاؤنا العرب المقيمون بيننا أو الزائرون مذهولون من هذا "الرجَّال" الذي يعرفه كل الشعب السعودي في البادية وفي الحاضرة وهو يعرفهم والذي له من الصفات والوظائف والمهن والألقاب والاستخدامات والمهام ما يصيب السامع بالخبل والجنون، فما نقوله عنه لا يقبل به عقل ولا منطق مع أنه كل العقل وكل المنطق.
فلو كان الأمر متعلقا بعبارات من نوع: (شفت الرجَّال) أو (قلت للرجال) أو (كلمت الرجال) أو (سمعت الرجال)، لكان ذلك مفهوما، لكننا نقول: (ذبحت الرجال) أو (شويت الرجال) أو (طبخت الرجال) أو (أكلت الرجال) أو (شربت الرجال) أو (دفنت الرجال) وهي أقوال تجعل شعر الرأس يقف من الهلع إذا سمعها شخص حديث عهد ببلادنا. وأحيانا نقول مثلا (حلبت الرجَّال) أو (اشتريت الرجال) أو (بعت الرجَّال) أو (شميت الرجال) أو (ذقت الرجال) أو (تخلصت من الرجال) كما نقول (ما رأيك بالرجال؟) أو (ما تبي الرجال) أو(وشلونك مع الرجال) أو (شلت الرجال) أو(أخذت الرجال) أو (ما جاز لك الرجال)... إلخ
ما هذا "الرجَّال" الذي يذبح ويحرق ويشوي ويطبخ ويدفن ولا يموت؟ ما هذا الذي يحلب ويباع ويشترى ويذاق ويشم ويسمى رجالا؟! أليس هذا شيئا "يمخول العقل" كما نقول بالدارجة؟!
بلى.. هو كذلك، وفي الوقت نفسه ليس كذلك، فالرجال قد يكون رجلا بالفعل وقد يكون امرأة أو شاة، أو بقرة، أو بعيرا، سيارة، منزلا، سلعة، رحلة، عزومة وما دق أو جل..شرطه فقط اهتمام شخصين أو أكثر به، وتكفى كلمة "الرجَّال" كنافذة لكي يتدفق الحديث إلى ما لا نهاية بين من يعنيهم أمر هذا "الرجَّال"، الذي قد يكون أي شيء بل قد يكون جالسا لا يخطر بباله أن الحديث عنه.
"الرجَّال"، مصطلح من إنتاجنا الوطني، نستخدمه بإسراف كشفرة سرية ببجاحة فنحن نتحدث عن "الرجَّال" أمام الناس بصوت عالٍ مع أننا نقصد أمرا سريا فيما السامعون لا يستطيعون التكهن عما نتحدث ولا يحتجون على حديثنا علانية عن سر تغطي عليه هذه الكلمة المدهشة الغامضة.
لقد أتاح لنا اختراع كلمة "الرجَّال" أن نخوض بالممنوع وخصوصياتنا وأسرارنا المشتركة ونعبر عن رأينا بمعارفنا وأصدقائنا أو بمسؤولينا ورؤسائنا ومديرينا دون أن يفتضح أمرنا، كما أتاح لنا اختراع كلمة "الرجَّال" فرصة الاختصار بدلا من الإطالة والشرح، فبمجرد لفظ "الرجال" يلتقط الطرف الآخر أدق التفاصيل حال سماعها دون عناء.
لا أعرف لكلمة "الرجَّال" من مرادف إلا عند أشقائنا المصريين فهم يسرفون مثلنا في استخدام كلمة أخرى هي "البتاع"، التي تطابق "الرجَّال" عندنا، وقد استثمر الشاعر الشعبي الكبير أحمد فؤاد نجم كلمة "البتاع" وكتب عنها قصيدته الرائعة التي تحمل عنوان "البتاع" فيما تنتظر كلمة "الرجَّال" شاعرا سعوديا ليقول فيها قصيدته!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي