إنجاز
<a href="mailto:[email protected]">salehshahwan@hotmail.com</a>
ما من كلمة ابتذلت واستهلكت وخارت قواها وانطفأ بريقها مثل كلمة "إنجاز". باتت أي خطوة نخطوها, أي عمل نقوم به, أي إجراء, أي لقاء أو اجتماع تسبقه كلمة الإنجاز للدلالة على أن جهدا خارقا قد بذل ومهمة مستحيلة قد تحققت.
شغوف هو إعلامنا, ونحن معه, بهذه الكلمة حتى بدا كأنه ألبس للحديث أو الكتابة عما نفعل أو سنفعل قيمة ما لم تسط هذه الكلمة على غيرها من الكلمات وتصبح لها وحدها الغلبة.
لقد حاولت أن أجد لهذه الكلمة مرجعية وأصولا على النحو الذي نستخدمها فيه فلم أعثر فيما تيسر لي الاطلاع عليه من مأثورات الحضارات إلا كونها تأتي في إطار أجواء الملاحم والأشعار والأساطير والفنون وجدل الفلاسفة وصيحات الحرب. وغالبا ما تكون حماسات لمديح القوم أو القبيلة أو العائلة وللمباهاة بالنسب والحسب أو حيازة الخصال النبيلة التي تجمع البشرية على أهميتها كالكرم، الشجاعة، والصدق، وتأتي في الأغلب الأعم في سياق الرغبة في أن يكون أداء الواجب ليس في ذروة إمكاناته فحسب وإنما يتجاوزه إلى باهر الأعمال وجليل المواقف.
الفراعنة, البابليون، السومريون والآشوريون والإغريق لم يعتبروا ما تركوه إنجازات بقدر ما عدوه إفرازت طبيعتهم سواء كانت صروحاً شامخة من دور علم أو عمل أو عبادة ومن قلاع ومسارح وملاعب ومن تماثيل أو تشريعات وفنون وأعتاد حروب وأدوات الزينة.. اعتبروا ذلك كله مفردات تواصلهم مع الكون والحياة والخلود فقد كانوا غير هيابين من الموت، ونظروا إليه كامتداد لحياتهم.
لعل أقرب مصدر لكلمة "إنجاز" هو عصر القائد الروماني يوليوس قيصر, فقد أمر بحفر أبرز أعماله على مسلتين من الحجر تعتبران أشهر مدونة تاريخية عن الإنجاز، تعرف باللاتينية باسم RES JESTAE ثم كررها بصياغة مدهشة مكثفة عندما غزا مصر، حيث حفر على بوابة الهرم الأكبر VENI VIVI VICI أي (جئت ورأيت وانتصرت) بل كان قد أصدر ما يعتبر أول صحيفة يومية اسمها ACTA DIURNA أي الوقائع اليومية قرابة عام 85 قبل الميلاد.
في العصر الحديث كانت الأنظمة الشمولية، كالاتحاد السوفياتي سابقا, ألمانيا النازية, إيطاليا الفاشية, ومعها جوقة أحزاب الانقلابات العسكرية في مصر, سورية, والعراق تسرف في الصراخ العقائدي الذي كان يصم الآذان ويقهر العقول ويؤذي العيون, يجعل من الحبة قبة, فعطسة الزعيم إنجاز، وحشر الكادحين لتمجيد بؤسهم نكاية بالإمبريالية والأروستقراطية إنجاز، السجون الاعتقالات، وسحق آدمية الإنسان إنجاز.. وكله في سبيل غد مشرق تحل فيه الجنة على الأرض!!
في الغرب لم تكن ماكينة الدعاية تطحن عنوة المواطنين هناك صباحاً ومساء, إنما تتحدث الإنجازات عن نفسها باعتبارها تجليات معالم الذهن والأداء العام الذي لا يرضى بتحقيق الواجب وإنما بالتفوق عليه والاستمرار في الاحتفاظ بقصب السبق قولا وعملا. وسوف يعتبر من قبيل النكتة والسخرية لو عمدت هيئة البريد البريطاني مثلاُ إلى تقديم منجزاتها، إن العكس هو الصحيح، فالإعلام يواجهها بتعثراتها .. العصر لم يعد يقنع بالإنجاز ولكن بما بعده مثلما أصبحت خدمات ما بعد البيع هي الأهم من البيع نفسه.
فأين نحن من هذا؟ إن تم عقد مؤتمر للقمة العربية (بعد العلعلات!!) تبارت أبواق إعلام العرب لتقول إن مجرد انعقاده يعتبر إنجازا, وإذا تمت اللقاءات أو الاجتماعات العربية أو الإقليمية أو المحلية على مستوى مسؤولي تلك الجهات لاتخاذ قرارات اقتصادية أو اجتماعية أو علمية أو غيرها، تنفسنا الصعداء واعتبرنا شرف الجلوس حول طاولة واحدة إنجازا حتى لو أسفر هذا اللقاء عن تعقيد وخلاف أشد من السابق.
أثملتنا كلمة الإنجاز حتى صرنا نعتبر تناولنا قدح قهوة الصباح إنجازا الذهاب للعمل إنجازا, إعادة اجترار مواضيعنا، آرائنا، معاملاتنا، مذكراتنا إنجازا. تقام الندوات، الحوارات، الدورات وتوضع الخطط والاستراتيجيات ويعتبر مجرد تجييرها في المحاضر وتسطيرها على الورق إنجازا. وإن قمنا بتنفيذ بعض المشاريع, فلا يهمنا كثيرا نوعية قواها البشرية ولا كيفية الأداء ولا التجهيزات ولا كفاءة الخدمات التي ستقدمها, فالمهم أنها أصبحت موجودة والسلام!!
صارت الأجهزة والمصالح تحرص كل الحرص على أن تشد الناس من شعرهم ليقرأوا مفاخر إنجازاتها في كتاب تدون فيه واجبات الجهة ومستحقات مهامها ووقائع روتين العمل اليومي, عدد المعاملات، الزيارات، وحتى غفوات النعاس وهجمات التثاؤب!!.
فما الذي يبقى حين يصير الواجب إنجازا؟ حين تصر كل جهة على اعتبار أن ما تقوم به إنجاز فيما هو من صميم مهام عملها الذي أنشئت من أجله؟. ألا يخرج ذلك بالتكليف إلى حيز المنة على الوطن والمواطنين؟ أليس التمادي في إغداق صفة "الإنجاز" على كل ما هب ودب تضليلا يهدر إمكانية رؤية الإنجاز الفعلي؟ نعم.. هو كذلك .. فأروع الإنجاز هو ذاك الذي لا يحتاج لا لقلم.. ولا للسان!!